الأربعاء، 16 مارس 2022

الرئيسية بحث كامل عن صورة المحارب في ديوان المتنبي

بحث كامل عن صورة المحارب في ديوان المتنبي

 

صورة المحارب في ديوان المتنبي

ملخّصُ الدراسة:
نهضت الدراسة بمقدمة وستة محاور، هي:
- صور من سماتِ المُحارب وموقعِ القادة.
- صور من أدواتِ الحربِ ودلالاتُهِا في شعره.
- صور من لباسِ المُحاربِ ودلالاتُها في شعره.
- صور من الخيل ودلالاتُها في شعره.
- صور من فنونِ الحرب ودلالاتُها في شعره.
- صورٌ من الأبعادِ المكانّية والزمانية ودلالاتُها في شعره.
أما المقدمة فأبرزتْ شغور هذا المحور للدّارس؛ إذ لم يُدْرَسْ قديما وحديثاً على رغم من أهميّته، وبروزِهِ في ديوانه، أما المحاورُ الستةُ الأخرى فبيّنت أهميةَ سماتِ المحاورِ ومَعَدّاتِ القتال وألبستهَم والخيلَ وتنوَّعَها ودلالاتهِا مثلما وَضَّحَتْ صورا من فنون القتالِ، وصوراً من الأبعادِ المكانية والزمانّية ودلالاتِها في شعره، مما لم تدرس من قبل في حدود ظَنّ الدّراس.











ــــــــــــــــــــــ
* نشر هذا البحث في مجلة المجمع العلمي، ج1، مجلد 47، بغداد، 1421هـ- 20000م، ص67.
1.المقدمة:
لا جَرَمَ أَنَّ لصورِ المحاربِ، في شعر أحمد بن الحسين المتنبي (303-354هـ) حضوراً مِبرازا، تَقُع عليه العُين في قصائدِ ديوانِه، فينقلُِكَ إلى الهيجاءِ وساحِها، فترى مَعَهُ بعينِ خيالِك مُحاربينَ رَجَلَةً وفرساناً، إما يتطاعنون بالرِّماحِ، أو يتقارعون بالسُّيوفِ، أو يتشاجرون بالقسِيّ والسِّهام، وتصيخ بمسمعيك إلى حمحماتِ الجياد، وتصفيقِ سنابِكها، وهي تَنْقُشُ صدورَ البُزاةِ على صُمَّ الصَّفا، أو تطبعُ بالحرفِ الأوّلِ من أسم قائِدها"علي" فَتَمْزجُهُ بمقدوحِ الشَّرر، وصليلُ السيوفِ يمتشجُ مُقَعْقِعاً في البيَض والهاماتِ، في نقيع القساطلِ المتفرّقة، من أصقاع دولةِ بني العباس؛ داخلَ حدودِها وخارجَها، تقمعُ الفتنَ الداخليةَ، وتلتحم مع الروم، في معاركَ شتّى كرّاً وفرّاً، والنتائجُ تماخضُ قتلى وجرحى، وأسرى وسبايا وإعزازآ وإذلالا.
وعلى الرَُّغمِ من حضور المحارب في شعرهِ، فإنّ الدراساتِ في هذا المجالِ نادرةٌ أو قليلةٌ لم تستوفِهِ حَقَّهُ قدَيماً وحديثاً، فمن القدماء من دَرَسَ مقاطعَ مبتسرة من شعره، أو لخّص رأياً له في شعرهِ عامة، أو نَظَرَ إلى شعر الحربِ عنده؛ شأنُ الشّريفِ الرّضي، فأرتاه "قائد عسكر"(1) كأنما يُكَثّفُ توقيعا بليغاً فيه،ومنهم من قَرَّضَ شُهْرَتَهُ بين النّاس، واستحسنَ فيه البديهةَ والارتجالَ، دون أنْ يمثّلَ على فنَّ الحَرْبِ عِنْدَه، أو يظهرَ صورة الحربِ في ميدانهِ، شأنُ ابن رشيقٍ الذي يقول: " ثم جاءَ المتنبي فملأ الدنيا وَشَغَلَ النَّاس، ..كان كثيرَ البديهةِ والارتجالِ، وهو خاتم الشعراء......(2)
ومنهم من أهتمَّ بهيئته جالساً؛ وهو يُنْشِدُ بين يدي سيفِ الدولةِ، ولامتلاكه القوافي والمعاني، شان الثعالبي الذي يقول فيه:" .. وقد تفرَّدَ عن أهِل زمِاِنه بِمِلكِ رقابِ القوافي ورقةِ المعاني.(3)
وَبعضُهم من استوفقهُ تصويرُهُ للمعارك، شأنُ ابنِ الأثير، فذهبَ يؤَكَدُ شهودهَ الحرْبَ مع سيفِ الدولة، ولهذا فلسانُهُ يِصَفُ ما رآه عَيانا، وكأنَّ ابنَ الأثيرِ يَشْهَدُ له بِصِدقْه، ويُعْجَبُ بتشخيصه صُور الحرْبِ، وَوَصْفَهُ لها وهو على أهميّة رأيهِ يَعوُزهُ تجليةُ الصورةِ الحربية، والتدليلُ عليها فيقولُ فيه:" إذا خاضَ في وصفِ المعركةِ، كانَ لسانُه أمضى من نِصالِها، وأشجعَ من أبطالِها، وقامت أقوالُه للسامعِ مقامَ أفعالها، حتى تَظُنَّ أنّ الفريقينِ قد تقابلا، والسّلاحين قد تواصلا"(4)، هذه أبرز آراء القدماء فيه، أمّا أبرزُ دراسات البَحَثَةِ المحدثين فيه، فدراسة موسومة "ب" الحَرب في شعرِ المتنبي؛(5) إذْ إنَّهُ خَصَّ الحربَ بالباب الرابع من رسالتِه، فَدَرَسَ أوصافاً لأبطالٍ ونفسياتِهم، وبعضَ الأسلحةِ، ونتائجَ المعارك، ولكنّه على َجهده، لم يَنْفُذْ إلى الصورةِ الفنيةِ للمحاربِ، ولم يتغلغلْ في أبعادِها، وتنوِّعِ َدلالاتِها، كما طغى على تحليلهِ الشَّرْحَ المدرسيُّ للنَّصّ، ينثرُه دون أنْ تستوقفِهَ في كثيرِ من الحالات، الدلالاتُ العميقةُ للصورة الحربيةِ، ولم يُكَلِّفْ نَفْسَهُ توثيقَ الشاهدِ الشعري ورقمَ صَفْحَتِهِ، فبدا بحُثهُ عائماً غائماً.
ومن الدراسات في هذا المجال دراسةٌ موسومة بـ" سيفيات المتنبي" دراسة نقديّة للاستخدام اللغوي(6): نَحَتْ فيها مَنحى لغوياً أكثرَ منه فنيا، واقتصرته على سَيفياتِه، فافتقدْنا الصورةَ الحربيةَ في غيرِ سَيفياته، ولعلَّ عُذرَها غيرَ المستقصي لصورةِ الحربِ أن يكونَ في ضَوء مَعطياتِ رسالتِها وخُطتِها.
ومن الدراسات المتخصصة في هذا المجال دراسةٌ موسومةٌ بـ" شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي"(7)، خَصَّصَ البابَ الثالثَ من رِسالتهِ الجامعيّة، لدراسة "شعر الحرب في ظِلَّ الحمدانيين" وعلى تقديري لِجَهْدِهِ المكثّفِ وتعنّيه بدراساته، لأقوال الفرنجة، في أوصاف الحرب، التي شَهدَها المتنبي وسيفُ الدولة، ومحاولتِةِ تعزيزَ فَضْلِ الشَّعرِ على رأي التاريخ، الذي لم يَفِهِ المؤرخون حَقَّهُ، فقد اتسمتْ دراستهُ بالسَّياسة والتاريخ، وَقَّلما كان يُبّرِزُ الصّورةَ الحربيةَ الا وهي مزجاة بأحضانهما، ولكنّه - للحِقّ- تَوَقَّفَ عند أَرْبَعِ قصائدَ روميّة للشاعر فَجَلّاها، وغير أنّ وَقفاتهِ الفنّيةَ لم تُسْتَكْمَلْ؛ وذلك أمرٌ بَدَهِيٌّ في ضَوءِ دراسة أخرى من رسالتهِ.
أَمّا منهجي في دراستي هذه ، فأحدَّدُ باختصارٍ، مفهومي للصورةِ أوّلا ودراستي ثانياً لمحاورَ سِتَّةٍ من صورِ الحربِ، أفترضُ أَنَّها تقَّدم صورةً واضحة إنْ لم تكن كافيةً للمحارب.
والصورة بمفهومَها العامّ على اختلاف تعريفاتها(8): هي هيئُةٌ تثيرُها الكلماتُ الشعريّةُ بالذُّهن؛ شريطَة أنْ تكونَ هذه الهيئةُ معبَّرةً وَمُوْحِية بآن، وهي بمفهومِها الخاصّ: تركيبةٌ عقليةٌ تَحْدُثُ بالتناسبِ، أوْ بالمقارنةِ بين عُنصرينِ هما؛ في أحيانٍ كثيرة: عُنْصُرٌ ظاهريٌّ، وآخر باطنَّي، وأنَّ جَمالَ ذلك التناسبِ أو المقارنةَ يُحَّددُ بِعُنصرين هما: الحافزُ والقِيمةُ،لإنَّ كُلَّ صورةٍ فنّيةٍ تَنْشَأُ بدافعٍ وتؤدّي إلى قيمة(9).
وأفهم مما سبقَ أنَّ عناصرَ الصورة أربعةٌ: هي عُنْصُرُ ظاهريٌّ، يتأتّى من مُدْرَكاتِ الحواسِ الخمسِ، وعنصرٌ باطنيٌّ نفسيٌّ، وعنصرُ الدافعٍ المحرَكِ لهذه الصورة وإبداعِها، وعُنْصُرُ القيمةِ التي نَظّمَ لِأجلها شعرا.
وعليه؛ فَيُعْتَمَدُ النَّصُ ومجادلته عندي في ديوان المتنبي، مشيراً إلى رقم الجزء والصفحة، وَقلّما أَرْجِعُ إلى نُقولِ غيري فيه، لكي لا يتحّولَ البحثُ قولاً على قول، أو يُحشى بأقوالِ المؤرّخين؛ فتضيعُ الصورةُ الفنيّةُ أو يُعَتَّمَ عليها، فَضَلا عنْ أنَّ فسحةَ الدراسة قد تتضايقُ عن هذا النهج، وها أنا قسمت دراستي ستةَ محاورَ تقدَّمُ مشاهد من صورةِ المحارب، من كلِّ محور فيها وهي على النحو التالي:
1-صورٌ من سِمات المحاربِ ومواقِعُ القادة.
2-صورٌ من مَعَدّاتِ الحَرْبِ ودلالاتُها.
3-صورُ من لِباس المحاربِ ودلالاتُها.
4-صورٌ من الخَيل ودلالاتُها.
5-صورٌ من فُنونِ الحرب ودلالاتُها.
6-صورٌ من الأبعادِ المكانيةِ والزمانيةِ ودلالاتُها.




















2."صور من سمات المحارب وموقع القادة"
تَلَفَّتَ المتنبي إلى صور المحاربين بنوعيها؛ المعنويةِ والجسديةِ عامة، وإلى صور القادةِ خاصّة؛ وزّعها على قَاَدةٍ كثارٍ، وَخَصَّ سيفَ الدولةِ منها بسماتٍ انماز بها عَمنْ سواه، وراحَ يلتقطٌ لهم صوراً متعدّدة في أنحاءٍ شتى، من أصقاعِ الدولة العباسية وخارجهِا على الثغور.
أَمّا أبرزُ الصفاتِ العامة فتعريب القيادة، لأنه يرى إصلاح الناس بإصلاح الملوكِ فأصخْ إليه يقول(10):
وإنّما الناسُ بالملوكِ ومـا تَصْلُحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَـمُ

وحجته أنّ للقيادة العربيةِ صوراً معنويةً خاصّة؛ يفتقدُها في القيادة العَجَميّة، وهي الأدبُ والحَسَبُ والعهدُ والذمة(11):
لا أدبَ عندهمُ ولا حَسَـبُ ولا عهـودَ لَهـُمْ ولا ذِمـَمُ

ويؤكّد أهميةَ تعريبِ القيادة فيهزأُ بقيادةِ كافورٍ لصورٍ جسديّةٍ ومعنويةٍ فيه فهو أسودُ فكيف يقودُ السادةَ الأحرار(12):
ساداتُ كُلِّ أُناسٍ منْ نُفُوسِهِم وسَادةُ المسلمينِ الأَعْبُدُ القُزُمُ

وَمِنْ سمِاتِ القائِد حْرِصُهُ على توحيدِ الكلمةِ، ورصِّ الصفوفِ، بقطعِ الخلافِ بين القادةِ المتناحرين بـ "الصُّلح"(13):
حَسَمَ الصُّلحُ ما اشَتَهْتهُ الأعادي وأذاعَتـْه ألْسُـنُ الحُسّـَادِ

ذلك؛ لأنَّ للصلح صورة معنوية نفسية يصونُ بها النفوسَ من القتل، ويحققُ بالتالي ما تَعْجزُ الأسلحةُ عن تحقيقِه؛ موظفاً "التدوير" في البيت الأول يعادل به نفسيته الطموحَ التي لا تتوقّفُ السّمرُ فيه عن شطر فيهِ، الا وهي تُمَدُّ "الراء" إلى الشطر الثاني لتصونَ الأرواحَ بعد أن تركت" "السم" عند نهايـة الشطـر الأول(14):
نِلتَ ما لا يُنال بالبيض والسُّمـ(م) ر وَصُنْتَ الأرواحَ في الأجسادِ

ومن سماتِ القائدِ المعنوية، عزيمةٌ قويّةٌ تَسْتَمِدُ ثِقتّها من الله سبحانه، فتستعذبُ طعمَ الموتِ في الهيجاءِ، على ما لآسمها من صورةٍ هوجاء، موظّفاً اسمَ الهيئة التي تُحْوِلُ الطَّعّمَ الُمرَّ حُلواً في صورة ذوقية(15):
فَثِبْ واثقاً باللِه وِثْبَةَ ماجدٍ يرى الموتّ في الهيجا جنى النَّحلِ في الفَمِ

وقوله:(16)
ونفوسٌ إذا انبـرتْ لِقِتـالٍ نَفـَذَتْ قَبـْلَ أنْ يَنْفَذَ الإقدامُ
ومن سمات القائد المعنوية النزاهةُ التي يرتفعُ بها قدرُ ممدوحه:(17)
رَفَعَتْ قدرَك النزاهةُ عَنْـه وثَنَتْ قلبَك المساعي الجسامُ

والقائدُ مدَّربٌ جَيّدَ ورامٍ ماهر، شأن علي بن محمد بن سيّار، رامي النشّاب، ذي الإصابةِ الدقيقة، موظّفا صورةً بصريةً سمعية، يعرض خلالهما لَهَبَ الرمية وصوتَ الانطلاقةِ إلى هدفها(18):
يُصيبُ بِبَعَضِها أفواقَ بَعضٍ فَلْولا الكْسرُ لاتصلتْ قَضِيْباً يريكَ النزعُ بينَ القوسِ مْنِـه وبينّ رَمِيّهِ الهـدفَ اللهيبـا

ومن سماتِ القائد شجاعتُه في الحربِ نحو مساورِ الرومي الذي عرض صورتَه المعنوية شُجاعاً على استعارةٍ تصريحية "ليث غاب" ذاكراً اسمه على باب من تمجيد اسمه وتخليدِ ذكراه:(19)
أمسـاروٌ أم قَـرْنُُُُ شَمْسٍ هـذا؟ أو ليثُ غابٍ يَقْدُمُ الأُستاذا؟

وسيف الدولة شجاع من ارومه شجاعة، كابرا عن كابر باسلوب نسبـي:(20)
وأنتَ أبو الهيجا ابنُ حمدانَ يا آبنه تشاَبهَ مولودٌ كريـمٌ ووالِـدُ
وحمدانُ حمـدونُ وحمدانُ حارثٌ وحارثُ نعمانٌ ونعمانُ راشِدُ

والقائدُ ذو سِمَةٍ معنويةٍ أكَبْرَها فيه، وهي الكرمُ، شأنُ ممدوحهِ العلوي الذي وَرِثَهُ عن كابر وعن سجيه: (21)
كذا الفاطميونُ النّدى في بَنانِهم أعزُّ امّحاًء مِنْ خُطوط الرّواجب

ومثله ممدوحُه القِائُد سيفُ الدولة الحمداني الذي لا تكاد تقف لكرمِهِ عند حد:(22)
وإذا سألتَ بَناَنَـهُ عـَنْ نَيْلـِه ِ لَمْ يَرْضَ بالدنيا قضاءَ ذِمامِ
ويعرض أحياناً صِفتين للقائد على باب تمني هذه الخصيصة فيه، ليذكره بمواعيده التي لم تُنْجزْ، شأنه مع كافور:(23)
تزيدُ عطاياه على اللُّبثِ كَثْرةً وَتَلْبَثُ أمواهُ السَّحابِ فَتَنْضَبُ

وتلفّت إلى الصورة الجسدية للقائد، فأعجبه قيافةُ الحسنِ بن عليِ الهمذاني، بطوله المعتدلِ، كَقَدِّ القناةِ، ليس بأقيسَ أو أحدبَ، فناسبتْهُ الدرع الطويلة على بدنه في موقف حربي:(24)
وغالَ فُضولَ الدِّرعِ مِنْ جَنَباتِها على بَدَنٍ قَدُّ القناةِ لَهُ قَدُّ

وهذه أبرزُ السمات العامة للقائد، أما السمات الخاصة فانمازَ بها سيفُ الدولة عمن سواه منها: السِّمةُ المزدوجةُ، الفروسية والأدبُ معا:(25)
وميدانُ الفصاحةِ والقوافي وَمُمتحِنُ الفوارسِ والخيولِ
وهو قائد جيشٍ يَعْرِضُهُ ويتفقَّدُهُ:(26)
ولما عَرَضْتَ الجيشَ كانَ بهاؤُه على الفارسِ المَرخي الذؤابةِ مِنْهُمُ

ومنه أنّه القائدُ الذي يُحْسِنُ تعبئةَ الصفوفِ لِيَزُجّها في ساح الوغى، والشاعر يرقبه ويرافقه:(27)
عَرَفْتُكَ والصُّفـوفُ معبّآتٌ وَأَنـْتَ بِغَـيرِِ سيفِـكَ لا تَعِيجُ

ومن سماتِهِ الخاصَةِ أنَّ مَيَّزَتْهُ الخلافةُ عن غيره، فأَعدَّتْهُ لمواجهةِ الروم، "ولقَّبتْهُ "سيف الدولة":(28)
لأمـرْ أعدَّتـْهُ الخِلافةُ للعدا وَسَمَّتْهُ دونَ العالمينَ الصّارمَ العَضْبا

إنّ تلقيبَ الخليفةِ له "سيفَ الدولة" على أهميته، ظلمٌ له، بِخلاف اسمِهِ الحقيقي "علي" الذي يستأهلُه بحقّ؛ذلك لأنَّ للسيف حدَّا يَنْقَطِعُ بالضرب حِينا، في حينَ أنَّ كَرَمَهُ لا ينبو، أمّا اسمُه "علي" فاسم على مُسمّى وهو انصافٌ بِحَقّه، متّبعا أسلوبَ المناطقة في المقارنة والتمنطق:(29)
وإنَّ الذي سمّى "علياً" لَمُنْصفٌ وإنّ الـذي سَمّاهُ سَيْفَاً لَظَالِمُهْ ومـاكُلُّ سيفٍ يَقْطَعُ الهَامَ حَدُّهُ وتقطعُ لَزباتِ الزمانِ مَكارِمُهْ

فهو سيفُ الِله المسلولُ، عاتِقُهُ عليه، وقائِمُه بيد جبُّارِ السموات، على مال "جَبّار" من صورةٍ صوتيـةَ تَئِطُّ منها صِيغةُ مُبالغـة، محمّلةٌ على كَفّ قدرةٍ إلهية لا تقهر:(30)
على عاتقِ المَلْكِ الأغَرَّ نِجادُهُ وفي يدِ جَبّارِ السمواتِ قائِمُةُ

ومن سماتهِ الخاصّةِ أَنَّ حَرْبَهُ دينيُةً يعِزُّ بها الإسلامُ، ويعلو على بقية الاديان، وليس بغروى أن تكونَ حربُ سيفِ الدولةِ مع الروم دينية؛ ذلك أنّ أناشيدَ الروم على ما يذكره شلمبرجة الفرنسي كانت "النصرُ للهِ الذي هَدَمَ البلادَ العربية"، والنصرُ لله الذي شَتَّتَ من ينكر التثليثَ المقدَّسَ، والنصرُ لله الذي جَلّل بالخيبةِ هذا الأميرَ القاسي (سيف الدولة) عدَّو المسيحِ، النصرُ لله، النصرُ لله.(31)
خَضَعَتْ لُمنْصُلِك المناصِلُ عُذْوَةً وَأَذلَّ ديُنكَ سائرَ الأديانِ(32)
ولكي يذلّهم، فلا بد من أن ينمازَ سيفُ الدولة بسرعةِ الحشد، في جاهزية قتاليةِ، َيرُدُّ بها على هجوِم الروم، من حَلَبَ إلى الثغور:(33)
وظَنِّهمُ أنّكَ المصباحُ في حَلَبٍ إذا قَصَدْتَ سواها عادها الظُّلَمُ
فلم تُتِمَّ "سَروجُ" فتحَ ناظرِهـا إلا وجيشُك فـي جَفنيهِ مُزْدَحِمُ

ولهذه السماتِ الخاصةِ المتشجة، بصورة نفسيـة رعب يبعثه في قلوب العدو قبل التقائه:(34)
بعثوا الرُّعْبَ في قـلوبِ الأعاديّ فكانَ الِقتالُ قَبْلَ يومِ التّلاقي
كما يوزِّعُ الرُّعْبَ على قلوبِ الروم قبل عيونهم:(35)
أبْصَروا الطَّعْنَ في القلوبِ دِراكاً قبل أنْ يُبصروا الرِّماحَ خَيالاً

وتبدو الصورةُ البصريةُ في عيونِ الروم كبيرةً مرعوبةَ الرؤية، فترى لِفزعِها طولَ أذرعِ القنا على مسافتهِ القصيرة أميالا تنوشُهم أنّى كانوا، فبدا الرعب جيشا يبيدُ جموعَهم يَمنة ويَسرة:(36)
وإذا حـاولتْ طِعانـَك خَيـْلٌ أَبْصَـرَتْ أذْرُعَ القَنا أميالا
بَسَطَ الرُّعبُ في اليمين يمينـاً فَتَولّوا وفي الشِّمال شِمالا

ولعلَّ لهيبةِ سيفِ الدولة برعبهِ الممتدّ فيهم، دورا أَكَّدَهُ شَلمبرجة على لِسانِ الرومِ في عصره فأسموه "الكافر الحمداني" وهو " المحارب الوحيدُ الأعظمُ الساميُّ الذي أعلنَ الحربَ المقدسةَ على النّصرانية:(37)
وحب التضحية، وافتداء نفسه، أمامَ جيشهِ سمةٌ يمتازُ بها سيف الدولة عمن سواه:(38)
كـُلٌّ يُريـدُ رِجـاَلـهُ لِحَياِتـهِ يـا مـَنْ يُرِيـدُ حياتَهُ لِرِجَاله

واهتمامُه بالصور النفسية للقادة مَكَّنَهُ من عَقِْد مقارنهٍ بين قائده سيفِ الدولة الذي يفتـدي جيشَه بنفسه، والدمستقِ الروميّ القائد، الذي يُضحّي بأصحابهِ لينجوَ بنفسه:(39)
مضى يَشْكُرُ الأصْحاب في فَوْتهِ الظُّبى بما شَغَلتْهُمُ هامُهمُ والمعاصمُ

ومن سماتهِ المعنويةِ الرحمةُ بالقبائل العربية المهزومة، لما لهم عليهِ من حَقّ الجوار، والأرومةِ المشتركة:(40)
لَهُمْ حَقٌّ بِشِرْكِكِ فـي نـِزارٍ وأدنى الشّركِ في أَصْلٍ جِوارُ

إنَّهُ القائدُ الذي يعفو عن بني قومه إذا جنَحوا، ويترفَّقُ بهم، وهي صورة نفسية مُثلى، تُعْجِبُ الشاعر:(41)
عفا عنهم وأعتقهم صِغاراً وفـي أعناقِ أكثرِهم سِخابُ

ومن صفاتِ سيفِ الدولة درايُته بشؤون الحرب؛ فَيَعْرِضُ علينا مشاهدَ من تركيزه أسلحتَه على المرتفعات المحدقةِ بقِواته، للإنذارِ الأولىّ عن العدّو على ما يفهم من تركيزه هذا:(42)
تَبِيْتُ رماحُهُ فوَق الهوادي وقد ضَرَبَ العَجاج لها رِواقاً

وسيفُ الدولةِ ذو رأي في الحرب ممتزجٍ بشجاعةٍ ببلغ بهما علياءَ القيادة:(43)
الرأيُ قَبْلَ شجاعةِ الشجعان هو أوَّلٌ وهي الَمَحلُّ الثاني
فإذا هما اجتمعا لِنَفْسٍ حُرّةٍ بَلَغَتْ من العلياءِ كُلّ مكانِ

وأما أبرزَ سماتِ الجندِ فالفتَّوةُ والخبرة في الحرب بدليل أثارِ الجراح التي وَسَمَتْ وجوهَهم:(44)
وَكُلّ فتىً للحَرْبِ فَوْقَ جَبِينِه مِنَ الضّْربِ سَطْرٌ بالأَسنّةِ مُعْجَمُ

وهم على صوره نفسية مستعدون للحرب، فيتفقدون لباسهم الحربي لهذه الغاية، ودروعهم ضافية، وعيونهم كعيون ذكران الأفاعي؛ تتبدى مرعبة من تحت خوذهم الفولاذية:(45)
يَمْدُّ يديهِ في المُفاضةِ ضَيْغَمٌ وعينيهِ من تَحْتَ التّريكةِ أَرْقَمُ

وهم يجيدون تمويه أنفسهم وخيولهم فتبدو بتجافيفها مدرعة ملثمة على محمل من صورة بصرية:(46)
لها في الوغي زِيُّ الفوارس فوَها فَكُـلُّ حِصانٍ دارعٌٍ مٌتلثِّمُ
ومن الفرسان "الملثم" لئلا تسقط عمامته في ساح الوغي:(47)
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ كَأَنَّهم من طولِ ما التثموا مُرْدُ

وإذا كان الشاعر نقلنا إلى مشاهد بصرية ونفسية للجند، وهم في حالة استعدادهم للحرب على خبرتهم وتمويههم؛ فها هو ينقلنا إلى صورهم الحركية، وهم يمتطونَ صهواتِ خيولِهم، خِفافَ الأجسام، رشاقا، لا تكادُ تَشْعُرُ الخيولُ بهم على متونها وهم محترفون في ضرب الهامات:(48)
ضَروبٌ لهامِ الضاربي الهَامِ في الوغي خَفيِفٌ إذا ما أَثْقَلَ الفَرَسَ الِّلبْدُ

وهم جيدو الرماية من على صهوات افراسهم، فيسدّدون رماحَهم إلى أعدائهم من بين اذانها:(49)
وجُرْداً مَدَدْنا من بينِ آذانها الَقنا فبِتـْنَ خِفافا يتَّبِعْنَ العَواليا

وهم يمشّطونَ الأرضَ بسيوفِهم، بحثا عن خصومهم في مسرحِ عملياتهم، سواء ارتفع آكامها أم انخفضت غيطانها:(50)
تَرمي على شَفَراتِ الباتراتِ بهم مكامنُ الأرْضِ والغيطانُ والأَكَمُ

وابرزَ لنا في مشاهدَ مواقعَ القادة في ميدانِ القتال، ففي الهجوم يتحرّكُ سيفُ الدولة من موقعهِ إلى القلبِ والميمنةِ والميسرةِ، ويكشفُ الموقفَ عن كثب، ويدير شؤونَ المعركةِ حسب ما يستجد من مواقف:(51)
الجيشُ جَيْشُك غَيَرَ أَنّكَ جَيْشُهُ فـي قَلْبهِ ويمينهِ وشمِاله
أما صورة قائد الروم فأبرزها صورة حركية مرتعبة يفِرُّ قائدُها في مقدمة الفارين:(52)
لَعَلّكَ يوماً يا دُمُسْتـُقُ عائـدٌ فَكم هاربٍ ممّا إليه يـؤول
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جريحةً وخَلَّفْتَ إحدى مَهجتيك تسيل

وأما في حالة تقدم الجيش فإن سيف الدولة يندفع في مقدمته لقتال الـروم:(53)
فلما رأوه وَحْدَهُ قَبْلَ جَيْشِـهِ دَرَوا أنَّ كُلَّ العالمينَ فُضُولُ

واتنقلنا مع الشاعر لنشهد خطورة الروم على المسلمين آنذاك، فهم اقوياء، يهدّدون، ويتوعدون، من جهة:(54)
أبا العَمَراتِ تُوعِدُنا النصارى ونَحنُ نُجوُمها وهِيَ البروجُ

ومن جهة أخرى يحتشدون بعناصرَ قتاليةٍ من جنسيات شتى، شأنُهم في معركةِ الحَدَثِ، إذ حشدوا لها روما وروساً وبلغارا في حرب منظمة، وقصدهم هَدْمَ قلعةِ الحَدَث:(55)
تَجَمّـعَ فيـهِ كْـلُّ لِسـنٍ وَأمـةٍ فمـا تُفْهِمُ الحُدّاثَ الآ التراجمُ
وكيفَ تُرَجِّي الرومُ والروُس هَدْمَها وذا الطّعنُ آساسٌ لها ودَعائِمُ(56)
ويقدر قوات الروم بـ"خميس" من خمس فرق على ما تفهمه لغويا:(57)
كما يحدّد محورَ هجومهِ على قَلعة الَحَدثِ من الشرق باتجاه الغرب:(58)
خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زَحْفُهُ وفي أذُنِ الجوزاءِ مِنْهُ زَمازِمُ

كما تقدر قوة الروم لا بالخميس فحسب، بل بذكره الرتب العسكرية التي تقدر القوة بها، نحو توظيفه "البطاريق" الذي يرأس كُلّ بطريقٍ منهم عشرة الاف جندي على ما يذكره معاصره:(59)
وإذا ما استعنا بجمع بطريق على بطاريق فإنّ جيشَ الروم لا يقل عن ثلاثين ألفا، وقد عزموا على قتالِ الذي كان يسمونه "كافرَ بني حمدان" على ما ذكرتُ من قبلُ، ذلك بأن اقسموا بَمِفرَق ملكِ الروم على سحقِ سيفِ الدول، ولكنَّ المتنبي صغَّر اسمَ قائدِها "شُمُشْقِيق" تحقيراً له أو استهانة بايمانه التي خانه تنفيذها:(60)
آلى الفتى أبنُ شُمُشْْقِيقٍ فَاَحْنَثَهُ فَتى من الضَّرْبِ تُنْسى عِْنَدَهُ الَكلِمُ

وأفرز للرومِ استخباراتٍ دقيقة عن المسلمين، فقد علموا بمرضِ سيفِ الدولة ومكانه في "حلب" فأغاروا على الثغور:(61)
وَغَرَّ الدُّمُسْتُقَ قَوَلُ العدا (م) ةِ أَنَّ عَلِيَّـا ثقيـلٌ وَصِـبْ
3."صور من أدوات الحرب ودلالاتها"
وللمحارب أدوات حرب منها: أدوات يقتلُ بها، ومنها ما يدفَعُ بها عنه أذاها، فما هي؟ وكيف وظّفها في شعره؟ وما دلالاتها؟ مبتدئا بأدوات الحربِ القاتلة، أدرجها على أنها إجراءات معركة دفاعية ابتدئ بها حسب مدياتها البعيدة فالقريبة ثم الأقرب على النحو الآتي: المنجنيق، والسّهم، والرمح، والسّيف.
أمّا المنجنيق فذات رمايةٍ بعيدةٍ بأحجارِ على ما تفهمه مـن مصطلحات المؤنث(62)، وانظر تأنيثها في الاسماء المؤنثة(63). وأبرزها الشاعر دلالة على دقة رماية سيف الدولة:(64)
تُصيِبُ المجانيقُ العظامُ بِكَفّه دقائقَ قَدْ أعيَتْ قِسيَّ البنادق

وأمّا صورة السهم والقوس وملحقاتها من كنائن فأبرزها السهم حينا يصيب هدفه رماية ممدوحه، ويترك برمايته جراحا نازفة في صورة دموية حركية:(65)
إذا بكـت كـائنـه استـبنّا بِأنْصُلِهـا ِلأنصِلهـا ندوبا

ولتحقيق دِقّة إصابته، يحافظُ على ما يمكنُ تسميُته بـ" نقطة التسديد الواحدة" فتقع سهِامه بعضُها فوقَ بعضٍ، ولولاَ تَكسُّرُ بعضِ نصالها ببعض لاتصلت قضيبا:(66)
يُصِيبُ بِبِعْضهِا أفواقَ بَعْض ولولا الكَسْرُ لاُتَّصَلَتْ قضيبا

وتستوقُفِهُ الصّورةُ الحركيةُ للسَّهم البصريةُ للِهَبِه، وهو ينطلقُ من قوسِهِ إلى هدفه:(67)
يريكَ النَّزْعُ بين القوسِ مِنْهُ وبين رَمِيّهِ الهـدفَ المهيبا

ويبرزُ الرامي وهو يُصْلحُ خَلَلَ السِّهام أو يُذَلّل عُطلها، فتعطيه بما يأمرُها به وتمتثل لأمره:(68)
كأَنَّ القِسيَّ العّاصِياتِ تطيُعهُ هوى أو بها في غَيْر أَنْمله زُهْدُ

وممدوحُهُ مِدقاقُ الإصابةِ بسَهْمِهِ، ذلك أَنّهُ يُنْفِذُ سَهَمَهُ في عُقْدةٍ ضَيّقةٍ في شَعَرةٍ سوداءَ ليس في النهار بل في رماية ليلية:(69)
وَيُنْفِذُه في الَعقِْد وهو مُضَيَّقٌ من الشَّعْرَة السوداءِ والليلُ مُسْوَدٌُ

وأبرز صورةً صوتيةً للسّهام وهي تترامى حوله، فيسمع لها حَفيفا من حواليه، يُطْلِقُها عليه غلمانُ أبي العشائر ممدوحه:(70)
وَمُنْتَسِبٍ عِنْدي إلى مَن أُحُُِّبهُ وللنَّبلِ حولي من يديه حَفيِفُ

وتتحّولُ دلالاتُ السّهامِ في صورٍ متعددة منها: ما تعادلُ المصائبَ المتتاليةَ التي تنكسَّرُ على فؤاده لكثرتها على محمل الاستعارة المكنية التشخيصية:(71)
رماني الدَّهْرُ بالأرزاءِ حتى فـؤادي فـي غِشاءٍ من نبال
فصِرْتُ إذا أصابتْنِي سهِامٌ تَكَسَّرت النِّصال على النِّصال
كما تتحوَّل السِّهاُم خيولاً تنَْطَلِقُ في الثّغور:(72)
رمى الدَّرْبَ بالجُرْدِ الجيادِ إلى العِدى ومَا عَلِموا أَنَّ السِّهامَ خيول

وينقلنا إلى "اشتباك بالسهام" بين سيفِ الدولة والروم، فنشهد عنده تغيّرا في نواميس السهام فإذا وابلُ سهامِ الروم على المسلمين طَلاَّ نَدِيا، وإذا بطَلِّ المسلمين على الرُّومَ وبالا غزيراً:(73)
إذا مَطَرَتْ مِنْهمَ وَمِنْكَ سَحاِئبٌ فَوابِلُهُمْ طَلٌّ وَطَلُّكَ وابِلُ

وأَمّا الرُّمح "سلاحُ المشاة والخيالة" الذي يوظف في مهاجمةِ العدوّ، والردِّ عليه دونما حاجةٍ إلى الالتحام معه(74)، فذو مترادفاتٍ منها: القَنا، والأسلُ، والسَّمْهَرِيَّةُ،وله أجزاءٌ يُستغنى بها عن ذكر الكُلِّ، كالكَعوب والسِّنان ونحوها، وله صُوَرٌ بارزةٌ في شِْعرِه بدلالات منها: صورته مُعظّمَةٌ عند الشاعر فُيِقْسِمُ به، ويُشبِّهُ ممدوحَه به على مَحْمِل البليغ:(75)
وَرُمْحي لأَنْتَ الرُّمْحُ لاما تَبُلُّهُ نجيعا، ولولا الَقْدحُ لم يُثْقِبِ الزَّنْدُ
والرُّمْحُ مَطْلعُ قصيدة:(76)
نُعِـدُّ المَشْرَفيـَّةَ والعوالـي وَتَـقْتُلُنـا المَنُـوْنُ بـلا قِتـالِ
والرُّمحُ الطويلُ خاصّة من أسلحةِ عبيد الشاعر للاغارة على خصومه:(77)
فَرَسٌ سابقٌ ورمـحٌ طـويلٌ ودِلاص "زُعـْفٌ "وَسْيفٌ صَقِيْلُ

وكما تَعَلّقَ بالرُّمح الطويل، فإن ممدوحَهُ تعلّق به مِثْلَهُ فهو من عشرين ذراعا، لِيُحِّققَ به مطامَحه متوحِّداً معه، راضيا به ومرضيَّا، على نحو تشخيصي، والذي نفهمه على أنّه ابرازُ الجمادِ المجرَّدِ من خلال الصور بالشعورِ والحركة والحياة: (78)
وأسْمَرُ ذيِ عِشْرينَ ترضاهُ وارِداً ويرضاَك في إيرادِهِ الخيلَ سّاقِيا(79)

وبالرَّمْحِ حمى سيفُ الدولة قلعة الحَدَثِ من هجومِ الروم، وخَلَطَ كُعوبّها في عظامهم:(80)
وحماها بُِكلِّ مطَّرِدِ الأكْـ(م) عُبِ جَوْرَ الزَّمَانِ والأوجَالا
وقوله:(81)
أَدَمْنا طَعْنَهُمْ والقتْلّ حَتـّى خَلَطّنا في عِظامِهِم الكُعُوبا

وينقلنا إلى مشهد دموي تتراسلُ الحواسُ فيه، حيثُ يُديرُ أطرافَ الرِّماحِ على الرومِ، بصورة حركية، فَتُدارُ معها كؤوسُ المنايا، لذيذة عند ممدوحه، بصورتها الذوقية يَنتشِي بها مستغنياً بها عن لِذةِ الخَمّر:(82)
يُديرَ بِأَطْرَافِ الرِّماحِ عَلَيْهِمِ كُؤُوْسَ المنايا حَيْثُ لاتُشْتهيَ الخَمرُ

وصورة رِماحِ سيفِ الدولة نافذةٌ في دروعِ الرّوم، وإن كانت مُحْكَمَةَ من انساج داود التـي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم:" أنِ اعْمَلْ سَابِغاتٍ وَقدّر في السَّرد"(83) فتتحوَّلُ الدرعُ على متانةِ صُنْعها برماحِ ممدوحهِ نسيجا من عنكبـوت:(84)
قواضٍ مواضٍ نَسْجُ داودَ عِنْدَها إذا وَقَعَتْ فيه كَنَسْجِ الخَدَرْنَقِ

وأما صورةُ السّيف فبدأها بمرادفاتٍ شتى وصنوفٍ مختلفة، منه الباترُ والحُسام، وسيفُ الهند، والنّزارية، والمَشرفيُة، كما وظّفَ صورا من أجزاءٍ منه كنِجاده، وقائمِه، وفِرندِه، وغِمده ونحوِها، وابرزَ صورَهُ بدَلالاتِ شتّى منها:
أن ممدوحه سيف الدولة من أرومة سيوف على محمل الاستعارة التصريحية :(85)
مَنْ للسُّيوفِ بأنْ تَكُوْنَ سَِمَّيها في أَصِْلِه وفِرِنْدِهِ ووفائهِ؟

وصورُ السّيف جليلةُ القَدّر عِنَده، فها هو يُقْسِمَ به، على أنَّ ممدوحهَ السيفَ لا السَّيف المسلولُ للضَّرْبِ في صورةٍ مُتَحوّلة:(86)
وسيفي لأََنْتَ الَّسْيفُ لا ما تَسُلُّهَ بِضَرْبٍ وما السَّيفُ مِنْه لَكَ الغْمِدُ

وها هو يتعلَّقُ بصورته، فهو صَانعُ المجد، والعلمُ تَبَعٌ له، وخادمه في زمن يَحمي السَّيْفُ عِزَّ الاّمةِ ومجدَها:(87)
حتى رَجَعْتُ وأقلامي قوائلُ لي المجدُ للسَّيفِ لَيس المجدُ للْقَلَمِ
اكتبْ بنا أبداً بُعْدَ الكتـابِ بـهِ فإنّمـا نَحْنُ للأسيافِ كالخَدَمِ
فترى مما سَبَق تَحَوَّلَ صورةِ السّيفِ إلى الكتابة في الأمجاد بالنَّصر، وبصورةِ تجسيمّيهَ تبدو الأقلامُ خَدَما للِسَّيْف: وَيُبِرزُ صورةَ المواجهةِ بالسَّيف في نهايةِ مِراحلِ المعركة كما يُسمي اليومَ "بالسلاح الأبيض" عند تطاعن الأقران ولا يَسْلَمُ من الكسر إلاّ السَّيفُ الصَّارِمُ في معركة الحَدَث:(88)
فَللّهِ وَقْتُ ذَوَّبَ الِغشَّ نارُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صارِمٌ أو ضُبارِم

وقولُهَ مُمْتَدِحا الدورَ النهائيَّ للسّيفِ في ختامِ اجراءاتِ المعركةِ الدفاعيةِ:(89)
حَقْرَتَ الرُّدِيِنيّات حَتّى طَرْحَتها وحتّى كأَنَّ السَّيْفَ للُّرمْحِ شَاتِمُ
كما يتجلّى السَّيْفُ، في صورةٍ لونيّةً لَمْسيّةٍ ،بقطع رقابِ العدوّ على عَجَلٍ:(90)
أَعْجَلْتَ اَلْسُنَهُمْ بِضَربِ رِقابِهِمْ عـن قَوْلِهِمْ لا فارسٌ إلاّ ذا

والشّاعرُ نَفْسُهُ يَجْدَعُ بالسَّيفِ أُنوفَ الغادرينَ بهِ، في صورةٍ دمويّةٍ لَمْسيّةٍ نَفْسّيةٍ مُتشفيّة:(91)
أَعْدَدْتُ للغادريـنَ أَسْيافـاً أَجـْدَعُ مِنْهُمْ بِهِنَّ آنافاً

وإذا حَمَلْنا النَّصَّ حرفياً فنجدُ جَمْعي القِلّةِ "أسيافاً/ آنافاً" متعادلين صَرْفِيّا متضادين فعلياً، فأعدّ لِكّلًّ عُدَّتَهُ بِقَدَرٍ، مُلَوَّحا بما مضى من دورهِ القتاليِ، على بابٍ مِنْ ذِكْرِ سيرةِ السّيفِ الحربيّةِ:(92)
فإنَّ الحُسامَ الخضيبَ الذي قـُتِلْتـُمْ بهِ في يدِ القاتلِ
أَمامَ الكتيبـةَ تُزْهـى بِـهِ مكانَ السَّنانَ من العَاملِ
وها هو يشخّصُ وبإعزازٍ السَّيفَ اليماني، خاصّة ،فلو استطاع لأغمضَ عليه جفونَه وقايةً له وَحُبّاً:(93)
يا مُزِيْلَ الظَّلامِ عَنّي وروضـي يومَ شُرْبي ومعقلي في البَرَازِ
واليمانيِ الذي لو أسْطَعتِ كانت مقلتـي غمـدَه من الإعزازِِ

ويمايزُ بين السيوفِ فَيُعزُّ التصنيعَ العربيَّ، وَيَعُّدهُ أرهبَ من الهنديّ ذي "التصنيع الأجنبي":(94)
تهابُ سيوفُ الهِنْدِ وهي حَدائِدٌ فَكَيْفَ إذا كانتْ نِزارَّيةً عُرْبا
وَيْبرُزُ السّيفُ العربيُّ المشرفُّي رسالةً يَزجُّها إلى الرّومِ:(95)
ولا كُتْبَ إلاّ المَشرفّيةُ عِنُدَهُ ولا رُسُلٌ إلّا الخميسُ العَرَمْوَمُ

وذلك لأِنَّ للسَّيفَ العربيَّ المشرفيَّ هذا، لُغَةً يَفْهَمَها الدُّمُسْتقُ، على عجمهُ، لُغَـةَ السيَّـف:(96)
وَيَفْهَمُ صَوْتَ المَشَرفِيَّةِ فِيهِمِ على أَنَّ أصواتَ السذُيوفِ أعاجِمُ

وتستوقِفُهُ الصَّورَةُ السمعيّةُ لصليلِ السُّيوفِ، فيطربه صَليلُها، ولا يطربُهُ الغناء واحتساءُ الخمر، شأُنهُ شأنُ سيفِ الدولةِ ممدوحِه، الذي أجابَ أبا فراس، عندما دعاه لسماعِ الغِناءِ ؛"أنا مَشْغولٌ بِقَرّعِ الحوافرِ عن المَزاهر"(97) فيما يروى، فأصخْ إليه يقول:(98)
لأِحبّتي أنْ يملأوا بالصَّافياتِ الأكؤبا
وعليهِمِ أنْ يبذلـوا وعلـىَّ إلاّ أَشْرَبـا
حتى تكونّ الباتراتُ المسمعاتُ فأطرَبا

والشاعر نفسه ينتسب إلى عائلةِ السّلاحِ وأُسرتِها، فيتخذُ السّيفَ المَشرفيّ أبا له، والحربَ أُمّا، والرُّمْحَ أخا:(99)
وأنْ عَمَرْتُ جَعَلْتُ الحَرْبَ والدةً والسَّمْهَرِيَّ أخاً، والَمَشْرِفيَّ أبا

وَيَتَعنَّى إبرازَ صورةِ السيفِ اليماني خاصّة، وهو يغشى الرومَ المنهزمةَ، من ساحاتِ الوغى، أمامَ سيفِ الدولةِ، يغشاهمُ بالسيفِ، وتساندُه رمايةُ الرّماحِ والأسنّةِ، والرُّومُ يرمون بأسلحتهم فيما أفهمه "رماية إعاقة" وهم مولو الأدبارِ، ولعلّ اشتراكَه في المعركة، غيرَ مَرَّة؛ مع سيفِ الدولةِ، جَعل لشعرهِ فَضْلًا على مؤَرّخي الروم، مِمّنْ عاصروا حَرْبَ سيفِ الدولةِ، ومنهم "نيسفورُ فوكاس" الذي أشارَ إلى خِطّةِ الرّومِ في الانسحاب فقال:" والرّومُ كانوا يحاربون وهم في مرحلة الهزيمة"(100)، فَلْنُسَرِّحْ الخيالَ ساعةَ هزيمةِ الرُّوم، وهم يَرْمُونَ بأسلحتهمِ للإعاقة: وأسلحةُ المسلمينَ بأنواعِها تناكِفُهم رَمّيا بمدياتِها المختلفة: النَّبالُ للمسافاتِ البعيدةِ، والسيوفُ تواجِهُ الأنداد، والذُّعرُ يستشري فـي الـرُّوْمُ فيدوسون أَسْلِحَتَهُمْ فَزَعـاً: (101)
فَرَمَوا بما يَرْمُونَ عَنْه وأَدْبَرُوا يطؤون كَلَّ حَنِيّةٍ مَرْنانِ
يَغشاهُمُ مَطَرُ السَّحابِ مُفَصَّلا بِمُهنـَّدٍ وَمُثَقـَّفٍ وسِنانِ

وفي مشهد آخر، يُشَخَّصُ حسام سَيفِ الدولةِ شاكياً، من كَثْرَةِ تضراب يمينهِ، والجماجمُ على ضربه شاهدةٌ:(202)
وَصُنِ الحُسامَِِِِ ولا تُذِلْهُ فَإَّنهُ يشكو يَمِينَكَ والجماجمُ تَشّهدُ
وَيمايُز بين السَّمِيِّ والمسمَّى من السيوف، فإذا كانَ السَّيْفُ، سَيْفُ الدولةِ قاطِعا باترا في الميدان، فإنّ سيفَ الدولةِ ينمازُ عنه، أذ هو بارٌّ وَصَولٌ على نحوٍ من توظيفِ التّضاد:(103)
وما للسَّيْفِ إلاّ القَطْعُ فْعِلٌ وَأَنَت القاطعُ البَرُّ الوَصُوْلُ
4."صور من لباس المحارب ودلالاته"
يُعَدُّ اللَّباسُ الحربيُّ من أدواتِ القتالِ التي يَذِبُّ بها المحاربُ عن جِسْمِهِ ضرباتِ العدوّ، وبعضَ طَعْناتِهِ، ومن أبرزِ مَعْداتِ القتالِ التي وظّفها الشاعرُ مبتدئاً من لِباسِ الرأسِ إلى الجَسَدِ كُلّه هي: المِغْفَرُ الذي يُلْبَسُ على الرأسِ تَحْتَ البَيضةِ "الخوذة" ويستر العنق(104)، على ما نَفْهَمُهُ من مصطلحات:(105)
والدّروعُ الساترةُ للجِسْمِ بأنواعِها المختلفة ِ،ويستعينُ المحاربُ بِتُرْسٍ يَذُودُ بهِ طعنَ الخَصْمِ، فَكَيفَ وظّفها الشاعرُ؟ وما دلالاتُها؟.
أما المغفر فأبرزه بصورة حركية دموية ثاكلة الرأس: مغفرا ولا رأس عليه؛ لَقَدْ انقطعتَ في الفِتَنِ الداخلييةِ:(106)
تَرَكْنَ هامَ بَنيِ عَوْفًٍ وَثَعْلَبَةٍ على رُؤوسٍ بِلا ناسٍ مَغافِرُهُ

وأَمّا البَيْضةُ فهي من تجهيزات ِالمعْرَكَةِ التي يَعْرِضُها الجنديُّ مصفوفةً على الدروع، بلباسِ المعركةِ الكامل:(107)
وأنّ البَيْضَ صُفَّ على دُروعٍ فَشَوَّقَ من رآهُ إلى القتال
وهي بيضاء اللون على نحو توثيقي لها في عصره تلمع في القتام:(108)
أحجارُ ناس فَوْق أَرْضٍ من دمٍ وَنُجُومُ بَيْضٍ في سَمَاءِ قَتَامِ

وأَمّا الدّروعُ الواقيةُ لِلبَدَنِ فصنوفٌ مِنها، الدّلاصُ الزُّغْفُ، والجَوْشَنُ، والسَّربالُ، والسابغاتُ، فالدَّلاصُ الزُّغْفُ من عُدَّةِ الفارس على نحو من جاهزيته القتالية:(109)
فَرَسٌ سابِقٌ وَرُمْحٌ طوِيلٌ ودِلاصٌ زُغْفٌ وَسَيْفٌ صَقِيلُ
والدُّروعُ السابغاتُ يَلْبِسُها قادةُ الرومِ لِتَرُدَّ عَنْهَمْ طُعونَ الرَّماحِ وأسنّتها، ولا تُؤْثَّرُ فيها:(110)
تَرُدُّ عَنْهُ قَنا الفُرسانِ سابِغَـةٌ صَوْبُ الأسنْةِ في أثنائِها دِيَمُ
تَخُطُّ فيها العوالي لَيْسَ تَنْفُذُها كـَأَنَّ كـُلَّ سِنانٍ فَوْقَها قَلَمُ

ومنها السَّربالُ، مَلْبوسُ مَمْدُوحِهِ أبي شُجاعٍ الذي اكتفى بواحدٍ منه، لِثِقتهِ بِنَفْسِهِ في المعركةِ:(111)
عَلَيْه مِنْهُ سرابيلٌ مُضَاعَفَةٌ وَقَدْ كَفاهُ من الماذيَّ سِرْبَالُ

وَصُوَََرُ الدّرعِ عِنْدَ الشاعرِ تُعَدُّ "خطَّ الدفاعِ الثاني" فيما أفهمه منه؛ ذلك لأنَّ السَّيََف والرُّمْحَ هما "خط الدفاع الأول" عن جِسْمِ ممدوحهِ:(112)
فَدَعّه لَقى فإنّك من كِرامٍ جَواشِنُها الأسنَّةُ والسُّيوفُ

وانتقلَنا مع الشاعرِ إلى مشهدِ درعٍ سابريٍ، قويَّةُ الحَبْكِ، لا نَخْتَرِقُها الأسلحةُ وإنما تخترقُها النظرةُ النَّجلاء:(113)
مَثَّلْتِ عينَك في حُشايَ جِراحَةً فَتَشابَهـا كلِتاهمـا نَجْلاءُ
نَفَذتْ علـيَّ السَّابريَّ وَرُبَّما تَنْدَقُّ فيه الصَّعْدَةُ السَّمْرَاءُ

وفي مَوْقِـفٍ حَرْبِيّ يَعُدًُّ الشَّجَرَ الذي يَسْتَتِرُ الرَومُ به مُعادلا للدّروعِ بجامعِ الحِماية:(114)
فَلا سَقَى الغَيْثُ ما واراه مِنْ شَجَرٍ لَوْ زَلَّ عَنْهُ لَواَرَتْ شَخْصَهُ الرَّخَمُ

وانتقلَ إلى تحوّلاتِ الدَّرعِ في دلالاتِها، فَعَدَّ رسائلَ الرّوم، وهي تطلبُ الصُّلْحَ مِنْ سيفِ الدولة دُروعاً، تقيهم بأسَهُ، وبصورة تجسيميّة ضافية:(115)
دُروعٌ لِمَلْكِ الرُّومِ هذي الرَّسائلُ يَرُدُّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيُشاغِلُ
هِيَ الزَّرَدُ الضّافي عَليهِ وَلَفْظُها عَليـكَ ثَنَاءٌ سابغٌ وَفَضائِلُ

وتتبدّى الصورةُ اللونيّةُ لدروع الروم، وهي مُصْطَبِغَةٌ بدمائهم المُعَصْفَرة؛ وقد جَفّتْ عليهم، كألبسةِ النَّسوة مِن تَضرابِ السَّيفِ العربي:(116)
خنثى، الفحولَ، مِنَ الكُماهِ بِصَبْغَهٍ ما يلبسون مِنَ الحديدِ معصفرا

وأمّا التُّرْسُ "الذي يقي المحاربَ به نَفْسَهُ من سِهـامِ الأعـداءِ ورِماحِهـم"(117)، فَوَرَدَ بمترادفاتٍ منها المِجَنُّ، الذي يبدو ظهره ناتِئا، وَبْطُنهُ لاطِئا صُعودا وحُدوداً، يعادل به ظَهْرَ ناقته:(118)
في مِثْلِ ظَهْرِ المِجَنَّ مُتَّصلٍ بِمِثلِ بَطْنِ المِجَنَّ قَرْدَدُها

وإذا ضَنَّ مؤرخو العَرَبِ، من معاصري حرب سيف الدولة، في عهدِ الشّاعرِ علينا، بأوصافِ هذه الأدواتِ الحربيّة، وَالبسةِ فرسانِها ومحاربِيها، فإنّ المتنبي صَوَّرَها لنا على مشاهدَ مختلفةٍ، أبرزتِ الدراسةُ مشاهد منها،وهذا من فضلِ الأدبِ على التاريخ، الذي ضَرَبَ صَفْحا عنها، أولا وَفَضْلًا ثانيا على وصف كريمر لجنود سيف الدولة، بما قالُهُ فيهم: "بأنَّهم كانوا مغاويرَ مُحبّين للحَرْبِ، لا يكترثون؛ يَلبسونَ الجانبّياتِ، ولكنّهم يَضَعونَ على وُجوهِهِمْ مغافرَ من اللونِ المصفّح، سِلاحُهم الرَّماحُ الطَّوالُ، والتّروسُ الكبيرة، التي تُغطّي الجسمَ وأقدامُهم، من خَشَبٍ لَيّن"(119).
5."صور من الخيل ودلالاتها في شعره"
وتوقَّفَ الشاعرُ عِنْدَ صُوَرِ الخيل؛ توقفا لافتا، فََشْكَّلَتْ محوراً بارزاً في شِعْرِه، ولا غروَ فهي وسيلةٌ رئيسةْ للحربِ في أيامه، وواسطةٌ في كَرِّ الحروب وَفَرِّها، ولهذا نَقَلَنا مَعَهُ إلى مَشَاهدَ عَنِ الخيلِ، وأنواعِها والوانِها وتدريباتِها وقتالِها، ورموزِها، ودلالاتِها، فَأَخَذْنا مِنُها شرائحَ للتمثيل شاهدة.
فها هو يُطْلِعُنا على صَوَر الخيلِ، مدربةً، تُصِيخُ بِأَسْمَاعِها إلى نِداءِ الصَّرِيخِ لنجدته:(120)
وإنْ نَقَعَ الصَّرِيْخُ إلى مَكَانٍ نَصَبـنَ لَهُ مؤلَّلة دِقاقا

وأرانا صورةَ الجُرْدِ منها، قصيرةَ الشَّعْرِ، مدربةً: تتّبِعُ تعليماتِ القنا التي بين اذانها:(121)
وَجُرْداً مَدَدْنا بَيْنَ آذانِها القنا فَبِْتـنَ خِفافاً يِتَّبِعْنَ العواليا

وفي مشهدٍِ آخر نرى صُوْرَةً لخيلِ طويلةِ العُنُق، تَصْلُحُ لمعاقَرَةِ الموتِ، مُتَلّفتا إلى ما يستجادُ من الخيل(122) فيقول:(123)
أُفَكِّرُ في معاقـرةِ الَمنايـا وَقَوْدِ الخيلِ مُشْرِفَةَ الهوادي
والخيلُ نشيطةٌ تجاذِبُ فرسانَها الأعنّة، كَأَنّها أفاعٍ على أعناقها:(124)
نَجاذِبُ فُرّسَانَ الصَّباحِ أَعِنَّةً كأنَّ على الأعناقِ منها أفاعيا

واستجادَ صلابةَ الحافرِ، وهو الخبيرُ بالخيلِ في صورةٍ حِسّية؛ ندركُها بصورةٍ لَمْسِيّة؛ ذلك أنَّ علماءَ الفِراسِة، يستدلّونَ بحافرهِ الصُّلبِ على ما في باطنِه:(125)
تم عَرَض صورةً بصرية لمسية لحافره، وهو يَنْقُشُ حافياً على صُمِّ الصَّفا صَدْرَ البُزاة: (126)
تَماشى بأيد كُلّما وافتِ الصَّفاَ نَقَشْنَ بِها صَدْرَ البُزاةِ حَوافِيا

و تكتبُ حيناً بسنابِكها الحرفَ الاّولَ من آسم "علي" على الصّخر الجلمد إذا ما وقعت عليه(127):
أَولُ حَرْفٍ من أسمه كَتَبَتْ سناِبك الخيل في الجلاميد

ومن صورها في ميادين المعركة أنْ تطأ بسنابِكها رؤوسَ العدا المتساقطة، وتشربَ في جَماجمهم:(128)
كَأَنَّ خيولنَا كانت قديمـا تُسقـَّى في قُحوفِهِم الحليبا
فَمَرّتْ غيرَ نافرةٍ عَليِهْم تدوسُ بنِا الجَماجمَ والتريِبا

وهي خيولٌ عزيزةٌ أَلَفِتِ الانتصاراتِ، فأعتادت ألا ّتأكَل، الا من فَوقِ هِام العدا ، ولا تشربَ الا من غُدرانٍ مشوبةٍ بِدَم:(129)
تَعَوّدَ ألاَّ تْقَضَمَ الحَبَّ خَيْلُـهُ إذا الهامُ لمُ تْرَفعْ جُنُوْبَ العلاِئقِ
ولا تَردَ الغُدرانَ إلاّ وماؤُها من الدَّمِ كالرّيحانِ تحت الشَّقائِق

وفي ميادينِ المعركةِ تبدو عابسةَ الوجهِ، مُمَوَّهَةَ بعرقِها وغبارِ الصحراء، ممنطقةً على أوساطِها لِتَقْمَعَ الفِتَن:(130)
عوابسَ حَلَى يلبس الماء حُزْمَها فَهُنَّ على أوساطِها كالمَناطِقِ
وَينقلُنا إلى حربِ خيولٍ عربيةٍ بأخرى عربية، تنتصرُ خيولُ سيفِ الدولةِ، على خيولِ القبائلِ الثائرة؛ فتهربُ تُدمي بَعضُ أيديها بَعضا، في صورة دموية حركية:(131)
يُدْمَّي بَعْضُ أيدي الخيلِ بَعْضاً ومـا بِعُجـايةِ أثـرُ ارتهاش

وإذا اتسختْ قوائمُها بالوحلِ، فموعدها قريبٌ من دم الأعداء بصورة معنوية دمـوية:(132)
فَـدانـَتْ مَـرافـِقُهُنَّ الثّرى علـى ثِقـَةٍ بالـدم للغـاسل
والفَرَسَ من الفارس، فهي قوية لقوة فرسانها:(133)
وما تَنْفَعُ الخيلُ الكرامُ ولا القنا إذا لمْ يَكُنْ فَوْقَ الكرامِ كِرامُ
واعتادت أنْ تقتحمَ المعاركَ فُتُطْعَنَ في نحرها، لامن خلفها:(134)
مُحَرَّمَةٌ أكفالُ خيلي على القَنا محلَّلـَةٌ لِبّاتـُها والقـلائـدُ

والشاعرُ يُعِزُ خيلَه، فيوظِّفُ الكنايةَ عن صفةٍ لإبرازِ إعزازه، فهو يُنْعِلُ أَفراسَه عَسْجَدا من مالِ سيف الدولة:(135)
تركت السُّرى خَلفي لِمَنْ قلَّ مَالُهُ وأَنْعَلْتُ أفراسي بنُِعماكَ عَسْجَدا
والشاعر معروفٌ عند الخيل مألوفٌ لها:(136)
فالخيلُ والليلُ والبيداُء تَعْرِفُنـي والسَّيْفُ والرُّمْحُ والقِرطاسُ والقَلَمُ
ومن مصطلح التشخيص(137) يشخص فرسَه بعد أن رَفُهَ عَيْشُهُ، فَيُخَذِّلَهُ عن اقتحام المعارك: (138)
يَقولُ بِشِعْبٍ بـَوّانٍ حِصانـي أَعَـنْ هذا يُسارُ إلى طِعانِ
أبوكـم آدمٌ سـَنّ المعاصـي وَعَلـّمَكمُ مفارقةَ الجنِـان

ولكنَّ الشاعر في غير هذا الموقف،لا يعرف النعيم المقيم، ويمقتُ التوقّف عن إدراكِ المعالي ، وقلّما يَخْلُدُ إلى الفِراش كغيِره:(139)
وملّنيَ الفِراشُ وكان جَنبي يُمَلُّ لقاؤه فـي كُلِّ عـامِ
وما فـي طِبّه أنـّي جوادٌ أضرَّ بِجِسْمِهِ طُولُ الجِمام
تَعَوَّد أنْ يُغبِّر في السرايـا ويدخلَ مـن قِتام في قِتام

واستوقَفَهُ صهيلُ الخيلِ بصورتهِ في حَرَبٍ عَلنيّة، قادها سيفُ الدولةِ في حرب القبائل الثائرة، فلم يَحْسِبْ للكتمانِ حِسابا:(140)
تَصَاهَلُ خَيْلُـهُ متجاوبـاتٍ وما من عادة الخيل السِّرارُ

ولو لم تكن الحرب علنية، لاسكت الخيل حفاظاً على سرية المعركة كما قال الشاعر:(141)
إذا الخيلُ صاحَتْ صُيِاحَ النُّسو (م) رِحَزَزْنا شراسيفها بالجِذَمْ
6."صور من فنون الحرب"
وفُنُونُ الحرب محورٌ بارزٌ في شعرهِ، يُشهِدُنا عليها، تتناولها مشجَّرة على النحو الآتي:-









(1)
أمّا المطاردةُ فبرزت بصورةٍ حَرَكيّة، يطارِدُ سيفُ الدولةِ قوّاتِ الرومِ فيرمون بأسلحتهم للإعاقة، ولكنَّ سيف الدولة يهزمهم.(142)
فرموا بما يَرْمُون عنه وأدبروا يطـؤون كُـلّ حَنّيِةٍ مِرنْانِ
يغشاهمُ مَطَرُ السَّحابِ مُفَصَّلاً بمثقفٍ ومُهَنّدِ ومثقف وسنِان
(2)
أمّا حِصارُ القلاعِ فأطالَ مُدَّتَهُ حَوْلها فَقَذَفَتْ فيها، واستسلمتْ لسيفِ الدولة بأسلوب تشخيصي نفسي ذليل:(143)
تَمَلُّ الحُصونُ الشُّمُ طُوْلَ نِزالِنا فَتُلْقِي إلينا أهلها وتَزْولُ
(3)

وأمّا نَصْبُ الكمائنِ فكان بالخيلِ للايقاعِ بالعدو ومفاجأتهِ، وفي وادٍُ يُوقَعُ الخسائرُ فيه:(144)
وَهُنَّ مَعَ الغِزلانِ في الوادِ كُمَّنٌ وَهُنَّ مع العِقبانِ في النِّيقِ حُوّمُ
(4)
وأمّا بناء القِلاع والتحصيناتِ، شأنُهُ فِي بناء قلعه الحَدَثِ الحمراء، فيرفعُ السُّورَ لِيَصُدَّ الرّيح الهوجاء، وَيُفْزِعُ لِعُلوِّهِ الطير:(145)
فَأَضْحَتْ كَأَنَّ السُّوْرَ مِن فَوْقِ بَدْئِهِ إلى الأرْض قَدْ شَقَّ الكواكبَ والتُّرْبا
تَصُدُّ الرِّياحَ الهُوْجَ عنها مَخافـةً وَتَفـْزَعُ فنِْها الطّيـرُ أَنْ َيلْقُطَ الحبّا
(5)
أمّا اجتيازُه الأنهر (146)فَبِخَيْلِهِ السابحاتِ مؤنّثا إياها، على أنّها مشخصةٌ عاقلة:(147)
فَهْنَّ مَعَ السِّيدان في الَبرِّ عُسَّلٌ وَهُنَّ مَعَ النِّينانِ في الماءِ عُوَّمُ
وقوله:(148)
تَجَفَّلُ الخَيلُ عَنْ لَبّاتِ خَيْلِهِـم كَمـا تَجَفَّلُ تَحْتَ الغارةِ النَّعَمُ
(6)
ومن فنونِ القتالِ الالتفاتُ المزدوجُ على الخصمِ بجناحي هُجوم، بجيش سيف الدولة:(149)
ضَمَمْتَ جَناحيهم على القلب ضَمّةً تموتُ الخوافي تَحْتَها والقوادم
(7)
والإحاطةُ بالعدو فَنٌّ من فُنونِ الحربِ التي صورها الشاعرُ، وهي عمليةُ "التطويق" في صورةٍ تَمثيليةٍ، كأَنَّها التقاءُ الهُدْبِ بالهُدْبِ، وينتصر على الدُّمُسْتُقِ في حَركتِهِ العسكرّيةٍ هذه(150):
مَضَى بَعْدَما ألتفّ الرّماحانِ ساعةً كَمَا يَتَلّقى الهُدْبُ في الرَّقْدَةِ الهُدْبا

(8)
ومن فنون القتال "التستر"عن الرّمايةِ بالشجر(151):
فلا سقى الغيثُ ما واراه مِنْ شَجَر لو زالَ عَنْه لَوَارتْ شَخْصَهُ الرَّخَمُ
(9)
والتمويهُ فن من الحرب، يتموههُ الفارسُ والفَرَسُ معا، فيبدوان فـي هيئةٍ واحـدة:(152)
لَها في الوغى زِيُّ الفوارسِ فَوْقَها فَكُلُّ حِصانٍ دارعٌ مُتَلَثِّمُ
(10)
ومن فنونِ الحربِ توظيفُهُ الحرب النفسيةَ بصورةٍ لافتة، ومصطَلَحُها اليومَ "مجموعةٌ أعمال تَستهِدفُ التأثيرَ على أفرادِ العدوِّ، بما فيهم القادةُ والأفرادُ غيرُ السياسيين، وتخلُقُ تصوّرا ما لدى العدوّ،أو نفيَ تصوراتِ ما عنده، عن طريق الدّعايةِ أو عملياتٍ عسكريةٍ استعراضيةٍ والتنسيقِ بين العملِ العسكريِ والدبلوماسي لِخَلْقِ تصوراتٍ معينّةٍ لأحداثِ الفوضى والبلبلةِ عند العدوّ "(153)، فها هو ينقضُ مزاعمَ القبائلِ الثائرةِ على سيفِ الدولة، فَيَعُدُّ خروجها عليه، إسخاطا لله عزَّ وجلَّ، فلنتركْهُ يتساءلُ بحربهِ النفسية وبأسلوب دعائي، برأي من انقادت إليه قبيلة عقيل؟ ألِلْمَوْتِ والهلاك؟(154)؛ وذلك لأنَّها قبائلُ وإنْ كانت قويةً، فإنها ضعيفةٌ أمامَ سيفِ الدولة، الذي لاشَكّ فيه سيهزِمُها، فتشمتُ بها القبائلُ الأخرى؛ ذلك لأَنَّ سيفَ الدولةِ هَزَمَ قبائلَ أقوى منها، وهو أسلوبٌ يَجْمَعُ بين إضعافِ عزيمِة الخصم، ورفعِ معنويةِ ممدوحِهِ، مستنداً إلى سِجلِّهِ الحربي؛ فقد أَذَلَّ فيما مضى قبائلَ عزيزةً، فما بالك بهذه القبيلةِ المتمرّدة.(155)
وَسَوْقَ عَليٍّ مِنْ مَعَدٍّ وَغَيِْرها قبائـلَ لا تُعطي القُِفيَّ لِسَائِقِ

ثم يُحاوِلُ أنْ يُزِعْزِعَ ثِقةَ القبائلِ الثائرةِ بقائِدها، فَيَشُنُّ حربَهُ النفسيّةَ على واسطة نقلهِ "الناقةِ" التي لا تصلحُ للحربِ أصْلا، كما يَشُّنُها على فكرتِهِ الباطلِة في ادّعائِه حَقَّ الإمامِة، وبصورةٍ ساخرة:(156)
وَجَيْشَ إمَـامٍ علـى ناقـةٍ صحيحِ الإمامِة في الباطلَ

ثُمّ يُوسِّعُ حربَهُ النفسيّةَ، على الثوراتِ الداخليِة، فَيَخْلُقُ تصوراتٍ خطيرةً على أمنِ الدولةِ الإسلامية، تشغلُ سيفَ الدولةِ عن حروبهِ مع الرومِ لِرَدْعِ خطِرهم ودَرْئِه، وهو توجُّهٌ وطنيٌّ كما ترى، لِكنَّهُ يَُغلِّفُهُ بحربٍ نفسيةٍ يحاولُ أن يُثبِّط من معنوياتِ المقاتلين ضِدَّ سيفِ الدولةِ أولا ويرفعُ ثانيا من معنوياتِ سيفِ الدولةِ وجيشِهِ من خلال عَرْضِ مشاهدَ، من سِجلِّه الحربيِّ المشرِّف، الذي أذلَّ العدوَّ على قُوّتِه، بقوةٍ تحويلية؛ تَرَكَ الرومَ ذليلةً، فتنهضُ صورةٌ متخفيةٌ من بيِن السطورِ، تُشْعِر المتلقي أنَّ حَرْبَ القبائلِ فاشلةٌ يكادُ يُحْكَمُ عليها من الآن:(157)
ولا شَغَلوا صُـمّ القّنـا بُِقلوبِهـِمْ عن الرّكز لكن عن قلوبِ الدماسق
ألم يحذروا مَسْخَ الذي يَمْسَخُ العدا وَيَجْعـَلُ أيدي الأُسِْد أيدي الخَرانق

وفي مشهدٍ نفسي آخر، يَعْرِضُ مَشْهدا دمويَّا نفسياً، لقبائلَ ثائرةٍ من قبلُ، وهم متساقطو الرؤوسِ تَتَعثَّرُ أَرْجُلُهم بها في موقفٍ مُروِّع، وقد تركَ المشهدُ مشهداً تتثاغى فيه شيِاهُهم، وتتراغى معها إبِلُهم، بعد أن افتقدتْ أهلها، بصورةٍ صوتيةَ مِعواء:(158)
مَضَوا متسابقي الأعْضَاءِ فيه لأَرْءوسِهم بِأَرْجُلِهِمْ عِثارُ
يُبَكِّي خَلْفَهُـمْ دَثـْرٌ بُكـاهُ رُغـاءٌ أوْ ثُؤاجٌ أو يَعارُ

ثم يُذكذرُهم بمشهدٍ آخر، يقطرُ أسى، يَعزفُ لهم أنّةَ حُزْنَ على مصير السبايا العربيات منهم –وهو الشرف التليد الذي يهتم به العربي منذ كان وحتى الآن- وقد أرْدِفْنَ سبايا راكباتِ، بعد أنْ دِيْسَتْ أطفالٌ صغارٌ تحت سَنابكِ خيلِ ممدوحه سيف الدولة:(159)
وَأرْهِقَتِ العذارى مُرْدفَاتٍ وَأوْطِئَتِ الأَصَيْبِيَةُ الصِّغارُ

ولكنه وهو يثير هذا الشَّجى النفسيَّ، يَعْلَمُ أنّه يثيرُ حفيظةَ العربي ليثأرَ، أو رُبّما لِيَنْقُمَ على من كانَ سبباً فيهِ، لكنَّه لدرايتِه بالنَّفْس المتلقيّة، وحسنِ خبرته بها، يَعْرِضُ مشهداً نبيلاً لسيِف الدولة، فهو بدلا من قَتْلِهِ الأسرى وهَتْكِهِ أعراضَ السبايا، يَفكُّ أَسْرَهم، ويعفو عنهم، ويعيدُ السبايا العربياتِ، معززاتٍ دون مَساسِ بِهِنَّ، ولا ريبَ في أنّ هذا الموقفَ الانسانيَّ يَسْتَلُّ سَخيمةَ النفوسِ الثائرة، فيغيِّرُ من رأيِها في سيفِ الدولة، ويرفعُ من شأنِ ممدوحِهِ، ويحاولُ توحيدَ الكلمِة ورصَّ الصفوفِ العربيةِ، وينبذُ تَفَرَّقَها، وبالتالي يدعوها إلى تدبّرِ أمِرها مَليّا، قبل أنْ تُفَكِّرَ في أمِر الخروج عليه، ولعلّها تصلحُ أسلوباً ناجحاً من الأساليب المعاصرةِ في الحرب النفسية(160):
فَعُدْنَ كَما أُخِذْنَ مُكرَّماتٍ عَلَيْهِنَّ القَلائـدُ والسِّـلابُ
وُيذكِّرُّهمُ بمشهدٍ نبيلٍ آخر لسيفِ الدولة الذي يرفعُ السيفَ عن أعناقهم لِما للنّسب المشترك، وحقّ الجوار عليه من حقّ:(161)
لَهُمْ حَقٌّ بِشْرِكِكَ في نِزارٍ وأدنى الشِّرْكِ في أَصْلٍ جِوارُ

وفي موقفٍ نفسي آخر؛ يشحذُ هِمّةَ سيفِ الدولة، لِئلا ينخذلَ عن هدفهِ السامي، في قراعِ الرومِ على كثرةِ ما يرى من تعاونِ المسلمينَ مع المشركينَ الرومِ، إمّا لِعَجْزِهم أو لِجُبْنِهم، فيوظّف (أل) التعريف من طاقةِ اللغة، لَِيكْشِفَ صورةَ الحشدِ المتعاونِ ضِدَّهُ، فيعرِّفُ المسلمين، يتعاونون مع "المشركين" ولو نَكَّرَ المسلمين- وهو قادر على ذلك والوزن لا ينكسر، وهو في خدمته، على "البحر المتقارب" لما أعطت دلالةً مكثفةً على نوع التحدّي المشتركِ الذي يواجُهه ممدوحُه المتمّيزُ على مقارعة الخصوم المسلمين والمشركين معا، ومع ذلك يقارعُهم وهو في أحْلَِك الشدائِد، لأنَّهُ واثقٌ بنصر الله تعالى، ركيزتهِ الأولى التي عليها يعتمدُ، أمّا غيرُه من المسلمينَ فأبرَزَهم جبناءَ، عجزَّا، كأنهم دانوا بدين النّصرانية فيقول:(162)
أرى المُسلمِين مع المُشركين إمـا لِعَجْزٍ وإمـا رَهَبْ
وأنتَ مـع اللهِ فـي جانبٍ قليلُ الرُّقاد كثيـرُ التّعب
كَأَنَّـكَ وَحْـدَكَ وَحـَّدْتَـهُ ودانَ البّريةُ بآبـنٍ وآبْ

ولعل الصورة الموسيقية التي في البيت الأول تعادل "التدوير" الممتد بين الشطرين تعاون المسلمين مع المشركين التي افرزتها أل "المسلمين" تعاونا عاما ممتدا غير محدد.
أما حربه النفسية على الروم فأشد وأقوى، فها هو يبرزهم حشودا مصممة على إبادة المسلمين واجتياح قلعة الحدث وهدمها، ولهم دورهم الاستخباري في جمع المعلومات الدقيقة عن المسلمين كما أشرت إليها من قبل، ومع ذلك يهزمون.
ولَعَلَّ من أبرزِ أدوارِ الشاعرِ في حربهِ النفسية، أن يُوظَّف نفسه موجّها معنوياً لجيش سيف الدولة في هزيمته وانتصاراته، لردّ اعتبارِ جيشهِ وقائدِه في الأولى، وشحذِ هِمّتِهم لمقارعة الروم المتحشّد في الثانية.
ففي هزيمةِ سيفِ الدولة يهِّونُ عليه أمرَها حتى لا ينهارَ معنويا، فيذكر أَهمَّ أسبابِها، وهي خِيانَتُهم سيفَ الدولة، وتشاغلُ المسلمينَ في الغَنائم، وأَمّا أسرى العرب فخساسُ القومِ وجبناءُ، لأِنِهَّم اختفوا بين جُثَثِ القتلى الروم، وخسائرُ المسلمين تنقيةٌ للجيِش من سِفلتِهم وأراذِلهِم، وأَسرُهم جزاؤهم:(163)
قُلّ للدَمُسْتُقِ إنَّ المسلمينَ لكم خانوا الأميرَ فجازاهم بما صنعوا
وَجدتموهم نيِاما فـي دمائِكمُ كـأنَّ قتـلاكم اِيـّاهـم فَجَعـوا
لقد أرادَ الله سبُحانَه تصفيةَ الجيشِ من خِساس الجند فَخَلَّصَهُ من أراذلهم:(164)
وإنّما عَرَّضَ اللهُ الجنودَ لكم لكي يكونوا بلا فَسْلِ إذا رَجَعوا

فألقى الشاعرُ اللومَ على الجُند، لا على القائدِ سيفِ الدولة، الذي يَدينُهُ معاصِرُه المؤرخُ ابنُ مسكويه، ويعزو سببَ الفشلِ إلى إعجابه برأيه، إذ لم يكن يقبل رأيا ممن أشير عليه بتجنب الدّربِ التي خَلفْه، ونصحوهُ بالعودةِ إلى طرسوس معهم فأبى، لكي لا يقالَ إنه أصاب برأي غيرِه، فانهزم، وتخلّص هو و(300) ثلاثمائِة رجلٍ بعد جَهد وَمَشَقَّة وهذا سؤ رأي من يجهل آراء الناس العقلاء(165).
وإذا صحَّ الخبرُ كما يرويِه ابنُ مسكويه كاتبُ ابنِ العميد- وربما كان ذا غايةٍ في دَرْجِ الخبر- إذ دأبَ على الإهتمامِ بالقائد وسماتِه، أمّا اهتمامُه بصورةِ الجُند فقليلةٌ على ما أَشَرْتُ من قبل- فَلَهُ عُذُره؛ إذ إنّ القائَد نجا ونجا الشاعرُ معه، وما عليه ألا يشحذَ هِمةَ قائدٍ مُنْهَزِمٍ، دون أن يعاقبه على هَزيمتِهِ وبشعره مرتين، وهو لا يجرؤ أصلا على نَقْدِهِ وقد صَحِبَهُ في غير معركةٍ من جهة، ولأنَهُ يشحذُ هِمَّتَهُ ليِنتقمّ مِمّن ظَفِرَ به من جهةٍ أخرى، وعليه فأرى أن الشاعرَ حقّقَ من الناحيةِ النفسيةِ هدفيه هذين، فها هو من جهة يُثني على شجاعتهِ، وقد رآه عيانا في أتون المعركة:(166)
وما حَمِدْتُكَ في هَوْلٍ ثَبَتَّ بِهِ حتى بَلَوْتُكَ والأبْطالُ تَمْتَصِعُ

ومن جهةِ أخرى ينفخُ فيه روحَ الجِهاد، ليثأرَ من هزيمته بعد أن بلغَ سيفَ الدولة خبرٌ عن تحشّد الروم بأربعين ألفاً، بعد ثلاثِ سنوات من هزيمته، فتهيَّبهم جيشُهُ، فطلب سيفُ الدولة من شاعِره أن يُذكيَ رُوحَ الحماسِة فيهم، فلبّى أوامرَه فنفخَ فيهم روحَ الحمية بصورٍ شتى منها: أنّ جَيْشَ سيفِ الدولةِ قد تحشَدَ بِعُدَتهِ الكاملِة وأعدَّ للحربِ عُدَّتها:(167)
وَخَيْلٍ حَشوناها الأَسنَّةَ بَعْدَما تَكَدَّسن من هَنَا وَمِنْ هَنّا

ومنها أنَّ الحربُ كَرٌّ وفَرٌّ، والرومُ يدركون ذلك تماما، والمسلمونَ أصحابُ روحٍ قتاليةٍ عالية:(168)
وقد عَلِمَ الرومُ الشَّقيّونَ أَنْنا إذا ما تَرَكْنا أرضَهم خَلفْنَا عُدْنا

ومنها أَنّنا "بضمير الجمعِ المتكلم" نرتدي للحرب عُدَتها، ونتهيأ لها سيوفا ورِماحا، فيضفي على حربهِ النفسيةِ طابعا خاصا؛ لا شتراكهِ الشخصيِ معهم في المعركة التي تهيّأ لها:(169)
وأَنا إذا ما الموتُ صَرَّح في الوغى لَبِسْنا إلى حاجاتِنا الضَّرْبَ والطَّعْنا

ومنها أنَّ النفس الإنسانية، هي صاحبةُ القرارِ في الخوفِ والأمن، فتخافُ إذا تخّيلتِ الخوفَ، أو يُرّبَطُ جأشها فترى في الحرب أمنا:(170)
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى وما الأمنُ إلاّ ما رآه الفتى أمنا

ثم ينقلُهُم بحربِه النفسيِة إلى مشهدٍ حربي، كانَ من سجلَهم الحربي السابق مع الروم، إذْ احرزوا نصرا، وأرهرقوا فيه دمَ الروم، التي بَرَدَتْ في يومِ اللُّقان، وفي صورةٍ لونية لمسيةٍ ممتتشجةٍ بحماسةٍ وتصميم على متابعة القتال، موظفاً التضادّ الذي يجمعُ بين شيئين متطابقين، قَلّما يجتمعان الا "بأمرنا" موظفاً ضمير الجمع المتكلِّمَ المنفصلَ، الذي أفهم منه اعتمادَهم على أنفسهم، لا على سِواهم في تحقيق الهدف(171):
فَقَدْ بَرَدَتْ فَوْقَ اللُّقانِ دماؤهم وَنَحْنُ أناسٌ نُتْبِعُ الباردَ السُّخّنا

مُوظِّفاً فعلاً مضارعا مستمرّاً متعدّيا يَحْمِلُ معه حربَه النفسيةَ المصممةَ على القتال، مُستنهِضا فيه الهِممَ العسكريَّة العالية.
7."صور من الأبعاد المكانية والزمانية"
وَيُجلّي المتنبي صورةَ المحاربِ بترسيمِه الابعادَ المكانيةَ والزمانيةَ للوقائع الحربية، وهذه الأبعادُ تُعَدُّ ظروفاً تَحْدُق بالاحداثِ أو تتغلغلُ فيها، وتتفاعلُ معها وبها، ولا أَحْسَبُ تصويرا فنَّيا يُتَخّيلُ بمعزل عنهما.
لَقَدْ تلفَّتَ المتنبي إلى الأبعاد المكانيةِ كثيرا في شعره، ولا سِيّما الثغور التي أكتفي بتجلية شرائح تصويرية منها، إذ أحْسَبُ أنَّ القليلَ من الإشارةِ إليها في الدلالة يغني عن كثيرها.
فَلِلثغور معنى لغويٌّ واصطلاحيٌّ، وفيها دروبٌ كان يَتَوجَهُ الجيشُ المهاجمُ عربيا أو روميا منها وإليها، وأشار كثير من الّلغويين ومعاجمِ البلدان والبَحَثِة المحدثين إلى هذه الثغور، والدروبِ من خلالها، والتي يُمْكِنُ أن ألخِّصَ بأسطرٍ هذا المصطلح لأهمية تعيّين المكان فيه كظرفٍ يُجلّي بعضَ أبعادِ الصورة الحربية.
فالثغَرُ لغةٌ: هو كُلُّ مَوْقعٍ من أرضِ العدوّ، أو موقعِ المخالفةِ من أطراف البلاد مما يلي دارَ الحرب وهو ثلمة يُؤتى مِن قِبَلِها.(172)
فالثغور آصطلاحا: خطٌ طويلٌ من القِلاعِ وهي حدودٌ بين المسلمينَ والروم، في أيام بني أمية، وبني العباس، تتألّفُ من سلسلتي جِبال طوروسَ، وطوروسَ الداخلية، وكانت تُعَّين حُدودُها ويحميها خَطّ من القِلاع، وتمتدُّ من مَلَطْيَةَ على نهرِ الفرات إلى طَرْسُوسَ بالقربِ من ساحلِ البحرِ المتوسطِ الشماليِّ الشرقيّ، وتنقسم ثلاثةَ أقسام: الثغورُ الجزريةُ وهي الشَّمالية الشرقّيةُ والثغورُ الشاميَّةُ، وهـي الجنوبية الغربيةُ والثغور البكرية وعاصمتها آمد ثغورا بالعمـق:(173)
ومن خلال الثغورِ دربان: أحدُهما دَربُ الحَدَثِ، في الثغور الجزرية، يَصِلُ إلى خَرْشَنةَ، ودَرْبُ السَّلامِة في الثغور الشامية ومحوره من طرسوس إلى القسطنطينية(174).و(175)، وبعد هذه الإشارةِ التاريخية إلى مصطلح الثغور ينقلُنا الشاعرُ إلى مشاهدَ حربيةٍ وَقَعَتْ في الثغور، ومن خلالِها، فَيَحْمِلُنا على تخّيِل مكانِ الحدثِ، بعد أن نُعيّنَ أماكنَها على الخرائِط فنتخَّيلُ صورةَ الأحداث فيها.
فها هو الشاعر يَعْرِضُ هجومَ الدُّمسْتقِ الرومي، من مَرْعَشَ باتجاه الثغور
فنتخّيل اتجاهَ هجومِه أوّلا من الشَّمال الشرقي إلى الجنوبِ الشّرقي، في محور مَرْعَش- الحَدثِ في الثغور الجزرية، ولكنه يهزم(176)، فيقول(177):
أتى مَرْعشاً يَسْتَقْرِبُ البُعْدَ مُقْبِلا وأدبرَ إذْ أَقْبَلَتْ يَسْتَعْذِبُ القُرْبا

وبالبُعدِ الثاني يُحدَّدُ مسرحَ عملياتِ خيولِ سيفِ الدولة، وهو يُغيرُ بها على اللُّقان (شماليَّ الثغور الجزرية) إلى واسطٍ في أرضِ العراق(178): كما حدَّدَ قوس مسؤليتها وهي تحشد بين نهر الفرات ودمشق في بيت تتجلى الصورة المكانية فيه:(179)
يُغيرُ بها بين اللُّقان وواسطٍ وَيُرْكِزُها بينِ الفُراتِ وَجِلَّقِ

وللبعد الثاني دوره في تجليهِ محورِ هجوم سيفِ الدولة، في ثغور الروم، معه سيرَ غزوتِهِ واتجاهَها، فيمكَّنُ الباحثَ منَ أنْ يدرسَ إذا أراد طبيعةَ المعركةِ التي خاضَ الحربَ عليها، شأنُهُ في هجومهِ على مَلَطْيَةَ الثغريّة، باتجاه قَباقبَ غرباً ثم يَكُرُّ راجعا باتجاهِ نهرِ الفُرات شرقا،(180) :(181)
وكَرَّت فَمَرَّتْ في دماءِ مَلَطْيَة َ مَلَطْيـَةُ أُمّْ للبنيـنَ ثَكُـولُ
وَأَضْعَفْنَ ما كُلَّفْتَهُ مـن قُباقِبٍ فأضحى كأنَّ الماءَ فيهِ عَليلُ
وَرُعْنَ بنا قلبَ الفُراتِ كأَنّمـا تَخِرُّ عليهِ بالرَّجـالِ سُيـول
الا ترى كيف تُجِلّى الأبعادُ المكانيةُ صورةَ الحرب؟، فتنقُلنا إلى محورِ القتال، اذ تُشخَّصُ مَلَطْيَةَ ثَكُولَ قتلاها، بصورةٍ دمويّة مِنواحٍ، وتجلّي صورة سيف الدولة مُتّجِها إلى قُبَاقِبَ، ويجتازُ نَهْرَها، فندركُ منطقةَ المناورة التي حَدَثَ بها الهجوم، وبعدَ أنْ يُنْجِزَ مَهَمّتَهُ يعودُ ، يرافِقُهم الشاعرُ، بدليلِ قولهِ "بنا" وقد اشتركَ الشاعرُ في الحرب غير مَرّة، ألا ترى العناصرَ الضروريةَ التي لَوَّنَها المكانُ، فأضفى عليها أبعادا وَلْنََضْرِبْ مثلًا أخيرا على تحديدِهِ مِحْوَرَ الهجومِ، فنفهمُ بِمُصْطَلَح "الدّرب" الذي كان يَعني في عصرِه "مِحْوَرَ طرسوس" القسطنطينية- أَنَّ مكانَ القتالِ كانَ في الثُّغور الشّاميّة وَعَبْرِها.(182)
رمى الدَّرْبَ بالجُرْدِ الجِياد ِإلى العِدا وما عَلُمِوا أنَّ السَّهام خُيُولُ
بدليلِ أن مصطلحَ الدَّرْبِ هذا يعني المحورَ المذكورَ، ذلك أن أمرا القيس عناه منذ الجاهلية بقوله:(183)
بَكَى صاحبي لمَّا رأى الدَّرْبَ دْوْنَهُ وأَيْقَـنَ أنـّا لاحقانِ بِقَيْصَرا

وتتجلّى الصورةُ عندما يوظِّفُ الأبعادَ المكانيةَ والزَّمانيةَ معا، فَيَحسُِّ المتلقي بالظّروفِ التي أحدقت به، ومعاناتِهم، شأنُهُ في تحديِد زمانِ غزوةِ سيفِ الدولة شتاءً بدليل توظيفه "سيحان جامد":(184)
أخو غزواتٍ ما تُغِبُّ سُيُوفُهُ رِقَابُهُمُ إلاّ وَسيْحانُ جَامِدُ

فَيُحَدِّدُ مِحْورَاً من الثغورِ الشامية، لأِنَّ سيَحانَ اصغرُ من جَيحان، وتقع عليه أَذْنَهُ في ثغور الروم(185): ولنا أنْ تتخّيل صورةَ الحرب في هذا المحور، والنَّهْرُ جَمُدَ لِشِدَّةِ البَرْدِ.
وبالمَكانِ والزّمانِ تَتَجلّى سَيْرُ العمليةِ العسكريةِ، من أمد مِنَ الثغورِ البَكريّة، إلى نهر جَيحانَ، لِمُدةِ ثلاثةِ أيام زمانا، وهي مدةٌ زمنيةٌ فيها مَشَقَةٌ، تُبْرِزُ مسيرهَ ليلا، وتحدّدُ مِحْورَ حَرَكَتِه العسكرية، فتقرّبُهُ مِن هَدَفِه "جَيحان" وتُبْعِدُه عن قاعدتِهِ العسكريّة "آمد" التي انطلق منها (186)
سَرَيْتَ إلى جَيحانَ مِنْ أرضِ آمدٍ ثلاثاً، لقد أدناكَ رَكْضٌ وَأبْعدَا

لقد حَدَّد الشعر قاعدةَ الهجومِ من آمد عاصمةِ الثغور الشّامية، ومسيرَهُ ليلا لِتُذكِّرَه، كما تَجلّى بالأبعاِد المكانيِة والزمانيِة أحيانا قَوْسُ مسؤوليتِه، فندركُ أن سيفَ الدولةِ 0كان حامياً للثُغورِ جميعِها الشاميِة والجرزيّة متخّذا له البكرية ثغوراً بالعمق.
ويحدِّدُ الصيفَ زمانا لغزوة من غزوات ممدوحهِ بدليل قوله:(187)
وَشُرَّبٌ أحْمَتِ الشِّعرى شَكائِمَها وَوَسَّمَتْها على آنافها الحَكَمُ

فنفهمُ أنَّ الغزواتِ كانت صوائفَ وشواتي، حَدَّد مواعيدها صاحبُ "الِخَراج وصناعة الكتابة"(188) كما تَستوقِفُهُ الحربُ الليليةُ زمانا، ففي رومياته، وبعد أنْ يأسر سيف الدولة رُوْماً من ثغر هِنْزِيط شماليَّ شرقيَّ مَلَطْيةَ، من الثغورِ الجزريِة، ها هو ينشرُهم في آمد، ثم يتَّجِهُ جنوباً باتجاهِ بلادِ الشامِ فَيَحتلُّ حِصني؛ الصفصافَ وسابورَ، في محوِر الدَّربِ، ثم يسيرُ ليلا، في وادي الصفصافِ، مُختتما مَهمَّتَهُ بعد أنْ هَدَمَ الحصونَ(189) ليلا، فيقول:(190)
وَتُضْحِي الحُصونُ المُشْمَخرْاتِ في الذُّرى وَخَيـْلُكُ فـي أعْنَاقِهِـنَّ قَلائِدُ
عَصَفْنَ بهِمْ يَـوْمَ اللُّقـانِ وَسُقنَهُـمْ بـ هنريـط حتى ابْيَضَّ بالسَّبي آمد
وأَلحْقَنَ بالصَّفصـافِ سابـُورَ فانهـوى وذاقَ الرَّدى أهلاهُما والجَلامِدُ


وقد يُشَكِّلُ الليلُ في بعضِ صورهِ ليلا من الغُبارِ، ومع ذلك يُطارِدُ سيفُ الدولةِ خُصومَه من بني كلاب، وَيَهِزمُهم في هذا الموقِف المعتِم المغبّر، فندرك أبعاد الصورة النفسية للقائد المنتصر:(191)
إذا صَرَفَ النَّهارُ الضَّوْءَ عَنْهُم دجـا ليلانِ :ليلٌ والُغبارُ

كما يحاربُهم بِضَوءِ النَّهار وبريقُ السيوفِ معه إنها صورة لونيّة صوتيّة:(192)
وإنْ جُنْحُ الظَّلامِ آنجابَ عنهم أضَـاءَ المَشْرَفَيَّةُ والنَّهارُ

وبالأبعاد المكانيِة والزمانيِة ظهرت إدامهُ الزَّخمِ في هجوم ممدوحِه، على عدوّه ليلَ نهارَ حتى أحرزَ النصرَ عليه:
هذا، وقد أبرز الدارس صورا متعددة للمحاربِ في شعرِ المتنبي، من حيث سماتُهُ وموقعُ القادةِ، ومَعداتُ الحرب، وَدلالاتُها، ومن حيثُ لباسُه الحربُّي، ودلالاتُه، وأبرزت الدراسة صورا من الخيل، ودلالاتِها، أبرزت الدارسة فُنوناً من الحربِ ودلالاتِها واخْتُتَمتْ بصورٍ من الأبعادِ المكانيةِ والزمانية بدلالاتٍ متعددّة مما قد يشير إلى أهميّة مثل هذه الدراسات، ولا سيما عند مواجهة النص.

















المصادر والمراجع
1- القران الكريم.
2- ابن الآثير، ضياء الدين الموصلي: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، طبع بولاق، 1282هـ.
3- ابنُ الاثير؛ علي بن محمد بن عبد الكريم: الكامل في التاريخ، بيروت: دار صادر، 1966، مجلد 8.
4- ابن مسكوبة، احمد: تجارب الأمم، طبع شركة التمدن الصناعية، مصر، 1915، بوقوفAmedroz ، نشر لندن، سنة 1921، ج2.
5- ابن منظور، عبد الله محمد المكرم الأنصاري: لسان العرب المحيط، تقديم العلامة عبد الله العلايلي، وإعداد يوسف خيّاط، بيروت، دار لسان العرب.
6- ابو ديب، كمال- (الدكتور): في الشعرية، بيروت: مؤسسة الابحاث العربيـة، ط2، 1987.
7- ابو ناجي، محمود حسن عبد ربّه (الدكتور): الحَرْبُ في شعرِ المتنبي، جَدَّة، دار الشروق، ط1، 1980، جزءان.
8- الأيوبي وزملاؤه: الموسوعة العسكرية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
9- البديعي يوسف: الصبحُ المنبي عن حيثيتهَ المتنبي، مخطوط دار الكتب المصرية، ورقمه 533 ورقة منسوخ سنة 364.
10- البرقوقي، عبد الرحمن: ديوان المتنبي، بيروت، دار الكتب العربي، 1980
11- الثعالبي، أبو منصور: يتيمة الدّهر، طبعة اسماعيل الصاوي، بمصر، 1934م.
12- الحموي، ياقوت: معجم البلدان، بيروت، دار صادر.
13- الدنيوري، عبد الله بن قتيبة: كتاب المعاني الكبير في ابيات المعاني، بيروت، دار الكتب العلمية، كتاب الخيل، ج1.
14- ديوان أبي فراس الحمداني، طبع بيروت، 1910م.
15- ديوان أبي الطيب المتنبي: شرح هوامشه وكتبها مصطفى سبتي، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية.
16- ديوان المتنبي؛ وضعه عبد الرحمن البرقوقي، بيروت، دار الكتاب العربي، 14هـ، 1980م.
17- الربايعة، حسن (الدكتور): الصُّورةُ الفنيّةُ في شعر البحتري- رسالة دكتوراه- الجامعة الاردنية، 1994.
18- الرّباعي، عبد القادر (الدكتور): الصُّورةُ الفنيةُ في النّقد الشعري- دراسة في النظرية والتطبيق، الرياض- دار العلوم والنشر، 1984.
19- قُدامة بن جعفر: الخَراج وصِناعةُ الكتابة، تحقيق وشرح الدكتور محمد حسين الزبيدي، بغداد، دار الرشيد، وزارة الثقافة والاعلام- سلسلة كتب التراث، طبعة أولى، 1981.
20- الكلبي، عبد الله بن محمد الجزي: كتاب الخيل: مطلع اليُمن والإقبال في انتقاء كتاب الاحتفال، تحقيق محمد العربي خطابي، بيروت، دار الغرب الاسلامي، 1986.
21- الكلبي: كتابان في الخيل- نَسَبُ الخيل لابن الكلبي؛ وأسماء الخيل وفرسانها لابن الاعرابي لابي منصور الجواليقي، بمجلد ، تحقيق د. نوري حمودي القيسي والدكتور حاتم الضامن، بيروت، عام الكتب، 1987.
22- الكلبي: انسابُ الخيل في الجاهلية والإسلامِ وأخبارُها، تحقيق احمد زكي، نسخة مصوّرة عن دار الكتب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977.
23- ليسترانج كي: بلدان الخلافة الشرقية، تعريب بشير فرنسيس، وكوركيس عواد، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1405هـ، 1985.
24- المانع، سعاد عبد العزيز (الدكتورة): سَيفياّت المتنبي، دراسة نقدية للاستخدام اللغوي، جامعة الرياض، 1987.
25- المحاسني، زكي (الدكتور): شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي، دار المعارف بمصر، ط2.
26- مؤنس، حسين (الدكتور): أطلس تاريخ الاسلام، القاهرة، الزهراء للاعلام العربي، ط1، 1987م.

































"الشُّئونُ الإداريةُ في الحرب عند المتنبي"
ُملّخص الدراسة:
للشئونِ الإداريّةِ في الحَرْبِ عند المتنبي حضور عزف البَحَثَةُ على كثرتهم عن درسِها، على الرُّغم من تنوع موضوعاتهاِ فيه، وهو الذي قيل عنه "مالئُ الدّنيا وشاغلُ الناس" ونظرا لأهميةِ الإدارةِ بتفرعاتهاِ المتعدّدة في ميدانِ الحربِ، فقد نهضت الدراسة بمقدمةِ مبتسررة وثلاثة محاور على النحو التالي:
أولاً: الشئون الإدارية مصطلحا في الحرب.
ثنيا: الاتصالات، تعريفا وأقساما وأنموذجات عليها.
ثالثاً: الشئون الإداريةٌ مخطّطا وأقساماً وأنموذجات كافية عليها.
أمّا في المحور الأول فَتَمَّ تحديدُ المصطلحِ الخاصِ بالإسناد الإداري، إنسانا وموادَّ في فِقْرَةٍ مُهمّهَ في أمرِ العملياتِ الحديث.
وفي المحور لثاني: حُدَّدَتْ الاتصالاتُ تعريفاً، وَقُسّمَتْ صنوفا منها: الدَّلالةُ والأعلامُ والإشاراتُ والرُّموزُُُُُ وغيرُها.
وأمّا في المحور الثالث: فتكلَفنا مُخطّطا من تسعةِ فروعِِ رئيسة: تدرس شرائح في الصيانِة والتكديس، وتوفيرِ الماء، والاستراحةِ، والمراسمِ، والقتلى، والجرحى- مسلمين وروماً- والأسرى والسّبايا. واختتمت بالطَّبابة. وقد قُدّمت أنموذجات كافية من الشعر؛ تدليلا على كُلَّ فَرْعٍ فيها، مما يُعَزَّزُ أهميةَ الشّعرِ، في تجليةِ ما تسكتُ مصادرُ التاريخِ عنه في أحايين كثيرة.




ــــــــــــــــ
*نشر هذا البحث في مجلّة جامعة جرش الأهليّة، للبحوث والدراسات، المجلد2، عدد1، كانون أول 1997 ، ص133-172.

1. مقدمة
لا ريبَ في أَنَّ للشؤونِ الإداريّةِ في الحربِ عند المتنبي حضوراً، عَزَفَ البَحَثَُة- على كثرتهم(1) - عن درسها، علىالرُّغمِ من تنَّوعِ موضوعاتهِم فيه، وهو الذي قِيل عنه: مالئُ الدُّنيا وشاغلُ النَاسِ، وذلك إمّا لِتَنَبهُّهِمْ إلى صُوَرِ الحربِ عندَهُ، فكلماتُه تتوهَّجُ في أتون المعاركِ فُرسانا، أوْ أَنَّ البَحَثَةَ في مجالِ شئونِ الإدارةِ بحاجة إلى خبرة ما تستوقفهم في ميدانها، وحاجتُهم الحقَّةُ ليس إلى الاطلاعِ على أوامر العملياتِ الحربيّة حَسْبُ، بل إلى مُمَارستِها في ميدانِ المناوراتِ والحَرْبِ، إذ لاغَناءَ في الأوامرِ الحربيّة عَنْ فِقّرَةِ الشؤونِ الإداريةِ لأِهميّتها.
ولعلّ في خلو وِفاضِهم، من هذه الزاويةِ- في حدود ما اطّلعتُ عليه- أنْ يَشْغُرَ للدارس فُسْحَةً من البحث يراها جديدةً، فيدرسُها من محاورَ محدّدةً على النحو التالي:
أولاً: الشؤونُ الإداريّةُ مصطلحا في الحرب.
ثانياً: الاتصالاتُ، تعريفاً، وأقساماً وأنموذجات عليها.
ثلثاً: الشئون الإدارية، مخططا وأقساما وأنموذجات عليها.
أولا
الشؤون الإدارية مصطلحا في الحرب Adminstrative matter logistics تعني تخطيط َكافّةِ القضايا العسكريةِ الداخلية، في التعبئة أو السُّوق، وهي تُعَدُّ رئيسةَ لقضايا الخاصّةِ بالإسنادِ الإداريِ. وإِدارةِ الأشخاصِ، وتعالجُ تعميمَ الموادَّ وتطوَّرَها، والحصولَ عليها وادّخارَها، وَتَنَقّلها وتوزيَعها، وإدامتَها، وإخلاءَها وترتيَبها، وتنقلُ الأشخاصَ وتُخليهم، وتُعنى بِضيافَتِهْمِ، وهي معنيَّةٌ بالحُصولِ على المنشآتِ السكنيّة أو إنشائِها، وإدامَتِها وترتيبِها، ومن واجباتِها الحصولُ على تجهيزاتِ القواتِ المسلَّحةِ، هذا من جهة، ومن أخرى تُعدُّ الشئونُ الإداريةُ أحدَ مبادئِ الحرب، لِأنّها تُعطي القائَد الحريَّةَ التامَّةَ، للعمل على تنفيذِ الخُطَّة، بأن تكونَ منظومَتُهُ الإداريةُ بسيطةً، وأن تكونَ للقائد درجة معينة من السيطـرةِ عليها ،ضمن نِطاقِ قيادتهِ، كما أنّها جزءٌ مُهِمٌ من أمـر العمليـات(2) (Operation order).
ولأهميةِ الشؤونِ الإداريةِ أفردَ لها غيرُ باحثٍ دراسات(3) ، غيرَ أنَّ دراساتِهم لمْ تَتَناولْها من خلال الشعر عامة، باعتباره "ديوانَ العرَب" ولا من شعر المتنبي خاصّةً وهو غاية الدارس المنشودة، من جهة، ومن أخرى فَزَعَمَ بعضُ البَحَثَةِ منهم الجنرال (ج. ب. غلوب) في كتابهِ "الفتوحات العربية الكبرى" بأنَّهُ لُمْ تَكُنْ للعربِ استراتيجيةٌ في الحرب، بل هم خالو الوِفاضِ من الفنون العسكرية، وكانت الجيوشُ العربيةُ- كما يزعمُ- تبدو أرتالا من المتعصّبين الذين امتللأوا بالحماسةِ لدخولِ الجَنّة، فراحوا يَكْتَسِحون كُلَّ ما كان أمَامهم، بهجماتٍ محمومةٍ، دون أنْ يَمْتَلِكوا ناحيةً من علم الحرب(4). إذن فلندخل إلى ساح المتنبي من شعره، لِنَجِدَ رَدَّهُ، لا مِن خِلال فنونِ الحرب، فذاك يحتاج إلى بحوثٍ لِتَجليتها، ولكنَّ الردَّ قد يجليه المتنبي في إضاءاتهِ الشئونَ الإدارية، في ساحات الوغى، وهي التي في الحرب من الأهميّةِ بمكان.
ثانيا: الاتصالاتُ
الاتصالات تُعَدُّ وسيلةٌ مُهمَةً في تنظيم سير المعركة، عند احتدامها، وبها يَتَمُّ السيطرةُ على مُجرياِتها، ذلك لأنَّ الجُنْدَ بها يتعارفونَ، بلْ هي لغةُ التخاطبِ سواءً أكانت مشافهةً أم مُراسلة، أم إشاراتٍ أم رموزا، وبها تتحدَّدُ علاقاتُ الجيشِ مع غيرِه خارجَ الدولة، وَبِوساطَتِها تُفّهَمُ الخِطَطُ الحربيةُ داخلَ الجيش، وَتُنفَّذُ أوامرُه، فتدخلُ المعركةَ، وَجُنْدُهُ تعرِفُ ما لها من واجبٍ، وما عليها من تنفيذ.
ولئن كانت القيادةّ والاتصالاتُ تحتلُّ فِقْْْرَةَ خاصّةً- حتى اليوم- في أمرِ العملياتِ العسكريةِ، إضافةً إلى المَوقفِ والمَهَمَّةِ والتنفيذِ، فإنَّ إدخالَها في مُخَطَّطِ الشئونِ الإداريةِ إدخالٌ مُتَعمَّدٌ، لأِنَّهُ يُجَلّي أَهَمَّيتَها لما ينشعب ُعنها من إشاراتٍ ورموزٍ، ودلالاتٍ متعدّدة، بُغْيَةَ أن تُؤدَّيَ خِدمات إداريةً، وحربيةً جُلّى داخلَ المعركةِ وخارجَها.

وتنقسمُ الاتصالاتُ عِدَّةَ أقسامٍ يُبيَّنها المخطَّط التالي:

(1) (2) (3) (4) (5)





(1)
أَمّا الدلالَة فتعني الاستعانةَ بالادلاّء، لهدايةِ غيرِهم إلى أهدافهم، بُغْيَةَ مَنْعِهم من الضَّياع أو فقدانِ الاتجاهِ، سواءٌ كان ذلك ليلًا أو نهارا، توفيرا ًللوقت، واستعجالا لانجازِ المَهَمّة. وعليه فإنّ الدليلَ ذو سماتٍ حاذفة بالدَّلالةِ، خبيرٌ بالطُّرُقِ الموصلة، إلى أهدافهِ، فأطلقوا عليه الخِرَّيْتَ (5) كَأَنّما يَنْظُرُ في خَرْتِ الإبْرَة لِحِذْقِه، يتموّه كالحرباء في متاهاتِ الصّحراءِِ والأمكنةِ، لِيَكْشِفَ مداخلَ خَصْمِهِ وأرضِهِ، على أَلاَّ يُكْتَشَفَ هو نفسه، كما يصوره المتنبي(6):
يَتَلَوَّنُ الخّرِيْتُ من خَوفِ التوى فيهـا كما تتلوَّنُ الحِـربـاءُ

والدليل ذو أهمية، ليس في متاهات الصحراء فحسب، بل عندما تلبسُ الأرضُ حُلّتها بَيْضاءَ من ثَلْج، فَتَسُدُّ عليهِ مداخل الهدايةِ، فلابّد من دليل(7):
وَعِقابُ لُبْْنانَ وكيفَ بِقَطُعِهـا وهـي الشَّتاءُ وَصَيْفُهُنَّ شِتاءُ؟!
لَبِسَ الثلوجُ بها عليّ مَسالِكـي فكأنّهـا بِبَيـاضِهـا سَـوْداءُ

لقد كانَ الشاعرُ يدركُ أهميةَ الدليلِ الحصيف، وَيُفْهَمُ من شِعره، أنّ خبرةَ الدّليلِ ضرورةٌ في آستخبارِ ما يراه، شأنُ بعض غلمانِه ممن أخطاؤا استخبار ثَوْرٍ رأوه، فبعضُهم ظَنّه منارَة جامع، وبعضُهم ظَنّهُ نَخْلَة، فَضَحِكَ أبو الطيب ساخرا من نتائج استخباراتهم فقال: (8)
فَظَنّوا النَّعامَ عليكَ النَّخـيلَ وظنـَّوا الصَّوارَ عَليك المنارا



(2)
ومن وسائلِ اتصالاتِهم الأعلام، إذ كان لسيفِ الدولةِ، ممدوحِ المتنبي، علمٌ يَضْرِبون الأعداءَ تَحْتَ أفيائِه، وهو ممَّيزٌ للعسكريين والإداريين معا: (9)
وَتَحْتَ لِوائِه ضَرَبوا الأعادي َوذَلَّ لَهُمْ مِنَ العّرَبِ الصَّعابُ

والعلمُ أسودُ، شِعارُ بني العباس، فهو مميّز معروف(10):
كَأَجْناسِها راياتُها وشِعارُهـا ومـا لَبِسَتْهُ، والسَّلاح المسمَّمُ

ولعلَّ ما أثبتَهّ شلمبرجة الفرنسي، في كتابه عن ملك الروم نيسفور فوكاس "أنْ يُؤَكَّدَ أَنَّهُ كان للكتيبةِ العربيةِ، في زمنِ الشاعرِ أعلامٌ مُطَرَّزَةٌ بِخَطًّ كوفي، وعليها وشيٌ وَزَرْكَشَةٌ فنيَّةٌ، وفوقَها كتاباتٌ بطِرِازٍ كوفي "لا إله إلا الله" وذلك على أعلامٍ عِراضٍ، كانَتْ تُحْمَلُ بأيدي دراعين، من فَوْقِ صَهَواتِ خيولٍ عُراب، وكانَ في وَسَطِ أعلامِهم صورةٌ لفارسٍ، بين صُحْبَةِ الفرسان، قد أكبَّ على طَبْلٍ، تَحْْتَ يديهِ يَقْرَعُهُ، بحماسةٍ وعنف، وقد رَفَعَ مِقْرَعةً في الفضاء، وأهوى على الطَّبل بِمِقْرَعَة (11) ويبدو أنّ الأعلامَ العباسيَّة صنوفٌ، منها في ساحِ المعركة باللونِ الأسود، وعليها كلمةُ التوحيد، ومنها أعلام لفرق الموسيقا معهم طبولُهم.
وتتابعُ الأعلامِ يُعينُ على السيطرةِ في مجال الرؤيا، بين القُواتِ المسلّحة، حَتّى لا يُفْقَدَ الضّبطُ بين جنودِها عندئذ، ولَعَلَّ تكريرَه اللفظيّ يؤكدُ تدَفَّقَ الجيوشِ، في تقدمهم لتحقيق السيطرة(12):
إذا مَضَى عَلَمٌ منها بدا عَلَـمٌ وإنْ مَضَـى عَلَمٌ منِه بـدا عَلَمُ
(3)
ومن وسائلِ اتصالاتِهم الإشاراتُ: إذ كان يشار بها إلى الخيل المدرَّبة من بعيد فتفهم(13):
وَأَدَّبها طُوْلُ الِقتالِ فَطَرْفُـهُ يُشِيـرُ إليـها مـن بَعيدٍ فَتَفْهَمُ

وهي لِحُسْنِ تدريبِها، تَتَبدَّلُ عِنْدَها مَهامُّ الحواسِّ، إذْ كانت تَسْمعُ بِعَيِنها وتفهمُ الَمرادَ في القصيدة ذاتها:
تُجاوِبُهُ فِعْلاً وما تَعْرفُ الوحى وَيُسْمِعُهـا لحظاً وما يَتَكَلـَّمُ

وَمِنَ الإشاراتِ طَمَعُ الطيرِ بِلحومِ أعداءسيف الدولة، لكثرة ما ألفه من خسائر خصومه، الأحياءِ مِنْهم، قبِل موتهم(14):
يُطَمِّعُ الطَّيْرَ فيِهْمِ طُوْلُ أكْلِهِمِ حتّى تَكادَ على أحيائِهـمْ تَقَـعُ

والنَّسْرُ يزورُ قتلى سيف الدولة فيأكلُ لَحْمَهم(15):
وَحَائٍن لَعِبَتْ سُمْرُ الرِّماح به فالعَيشُ هاجِرُهُ والنَّسْرُ زَائـُرِهُ

وكَثرةُ قتلى أعدائهِ من وسائلِ اتصالاتهِم، وعنصر دلالة(16):
إذا سلك السَّماوةَ غيرُ هـادٍ فقتـلاهـم لعينيـهِ منــارُ

ومن الإشارات مسايرةُ النيرانِ لِخَيلِ سيف ِالدولة، إذ تُحَرَّقُ ديارُ الرّومِ في كلَ موضعٍ وطئوه، ويقتلون أهله، ويخربون ديارَه(17):
تُسايِرُها النيّرانُ في كُلّ مَسْلَكٍ به القومُ صرعى، والدِّيارُ طُلُوْلُ

وإشعال النيران ليلا إشارةٌ إلى كَثْرَةِ الجيشِ؛ إمّا للاستضاءةِ أو لإِحراقِ الأعداء(18):
يُغِّيرُ ألوانَ الليالي على العدى بمنشورةِ الراياتِ، منصورةِ الجُنْدِ
(4)
ومن وسائل اتصالاتهِم الرموزُ التي منها قَطْعُ الطُّرقِ للرسل، وتأخُّرُ وصولهِم، الذي يرمز إلى مكروهِ أصابهَم، وهو عند ذلك رسالةٌ إليهم، شأنُ الرومِ وقَطْعُهم الطرقَ إلى قلعةِ الحدث، لئلا يستخبرَ سيف الدولة نوايا الروم إليها(19):
أخذوا الطُّرْقَ يَقْطَعونَ بها الرُّ (م) سـْلَ فكانَ انقطاعُـها إرسـالا

ويبدو أنّ أَخْذَ المضائقِ على المسلمين، حَدَثَ غيرَ مرة، منها سنة الحدث (338هـ) على ما يُؤرَّخُ لمناسبة القصيدة التي منها البيت السابق، ويقال مثله عن أخذ الروم المضائق على سيف الدولة سنة (346هـ).
وَهَزُّ اللواءَ إجماعٌ على قائد الحرب، شأن عجل لتنصيبهم قائدا عليهم(20):
هَزَّ اللواءَ بنو عِجْل بهِ فَغَـدا رأساً لهـم، وغـدا كلُّ لَهُ ذَنَبا
(5)
ومن وسائلِ اتصالاتهم المراسلاتُ؛ داخليةٌ بين جُنْدِ الجيشِ نفِسهِ، وخارجيةٌ بين الجيِش الإسلامي وجيِش الروم، فَجَيّشُ سيفِ الدولة، كان ُيقاتل على جبهتين(21):
أَنْتَ طُوْلَ الحَياةِ للـرّومِ غـازٍ فَمَتِى الوَعـْدُ أن يكوَن القفولُ؟!
وسِوى الرومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُوْمٌ فعـلـى أيّ جَانبيـكَ تَمِيـلُ؟!

وعليه، فكانت الكتُب وسيلةَ اتصال، مختومةً بأختامٍ طينيةٍ أحياناً، فَيُطاعُ أَمْرُ المرسِل حال ظهورِ خاتمه(22):
بُصَرَّفُ الأمرَ فيها طِيْنُ خَاتَمِهِ ولـو تَطَلـَّس مِنْهُ كُلُّ مَكْتوُبِ

وللرِسولِ سماتٌ منها البلاغة(23):
بالشَّرْقِ والغربِ أقوامٌ نُحِبُّهُمْ فَطالِعاهـم، وَكُونا أبلغَ الرُّسُلِ

وكذا بلاغةُ ابن العميدِ، بمراسلته إلى الروم فيفزِعُهُمْ ببلاغتها(24):
يا مَنْ إذا وَرَدَ البلادَ كتابُـه قَبْلَ الجيوشِ ثَنى الجيوشَ تَحَيُّرا
وقوله في بلاغته أيضاً من القصيدة ذاتها:
وَرَسائلٌ قَطَعَ العُداةُ سَحاءَها فـرأوا قَنّاً وأسنّةً وَسَنـَوَّرا

فكانت الرسائلُ تُشَدُّ وَتُغلَّفُ- كما ترى- فتتحّولُ أمامَ الخصمِ سِلاحا متنوعّا؛ قنا ودروعا؛ والمراسلات تنتظرُ إجابةً عنها إلى الروم، فإجابةُ سيفِ الدولةِ على مراسلاتِ الروم، مفخرةٌ في سيرةِ قادةِ الرّوم، لأنها تنبئ بعفوه عن خُصومه من الملوك(25):
وإنْ أَجَبـْتَ بِشيءٍ عَنْ رسائِلـِهِ فما يزالُ على الأملاكِ يَفْتَخِرُ

وذلكَ ِلأَنَّ مُراسلةَ ملوكِ الرومِ لسيف الدولة تعادلُ دُروعاً يحتمون بها من بطشه، لا دروعا لحربه(26):
دُرُوعٌ لِمَلْكِ الروم هذي الرّسائلُ يـَرُدُّ بهـا عَـنْ نَفْسِهِ وَيُشاغِلُ
أتاكَ يَكادُ الرأسُ يَجْحَـدُ عُنْقَـهُ وَتَنقَدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْهُ المَفاصلُ

لقد ذاق الرومُ من سيفِ الدولة صُنوفا من آلامِ الحربِ، وعرفوا مراسلاتهِ مشرفيات لاكتبا(27):
وَلا كتُبْ َإلاّ المَشرفَيْةُ عِنـْدَهُ ولا رُسُلٌ إلاّ الخَميسُ العَرَمْرَمُ

ولذا فإنَّ رَدَّهُ عليهم كُتُبا يُعَدُّ مفخرةً لقادة الروم إذن: ذلك لأنَّهُ يُتْبِعُ عادةً أسنّته ورماحه كُتُبَهُ، ويَرُدُّ بالخيلِ بَدَلاً من الرّسل(28):
تتلو أَسِنَّتُهُ الكتبَ التي نَفَذَتْ ويَجَعْلُ الخيلَ أبدالاٍ من الرُّسلِ

ولا غروى في أنْ نَعُدَّ المتنبي، خَلَعَ على سيفِ الدولة، صفاتِ مبالغة، إذا لمْ نَحْتَكِمْ إلى آراءِ مؤرخي الفرنجة فيه، إذ كان يُسمّّيه المؤرخون البيزنطيون ممن كتبوا تاريخَ حروبِ القسطنطينية مع حلب منذ القرن العاشر الميلادي ومنهم (شلمبرجة) –يسمونه "الكافرَ الحمداني" ويرونه الدّهرَ العربيَّ الجاثمَ في جوارهم، حتى عدَّهُ رجالٌ سياستهم المحاربَ الوحيدَ الأعظم السامي الذي أعلن الحرب المقدّسة على النصرانيةً وذكر شلمبرجة "أن اسمَهُ سيف الدولة العظيم يكادُ يكونُ مذكورا في كُلّ صفحة من صفحات كتابي هذا المثير"(29).
إذا كانَ سيفُ الدولةِ خطرا داهما يواجهُ الروم، فإنه من باب أولى أن يَكْبَحَ جِماحَ الفتن الداخليةِ، ويقمعَ تَمرَّدَ بعضِ القبائل العربية، التي عاثت في عَمَلِه، وخالفوا عليه كقبائل بني عُقيل وقُشير وبني عجلان، فأجفلهم من بين يديه، وَظَفِرَ بهم في خَبَرٍ طويل، فلا غروى أن يُرسلوا وفودَهم إليه لاسترضائه(30):
تَبِيْتُ وفـودُهـم تسري إليـه وجـدواه التي سألوا اغتفارُ

لقد كان أسلوبُ سيفِ الدولة، في مراسلاته معتمدا على القوة المسلحة، لأنه يدرك ُأنُّه لا يحقُق مطالَبه في مراسلاته، إلا بها، فمراسلاتُ سيفِ الدولة محميّةٌ بقوة السلاح(31):
وَهَلْ تُغني الرّسائلُ في عَدَوًّ إذا مـا لـَمْ يَكُنَّ ظُبى رِقاقا

ولا ريب في أنّ المراسلةَ إن لم تعتمد ْعلى قُوّةٍ مسلّحة، فإنها تقوُد إلى الاستسلامِ والذل، وهذا ما ذكره ابن الأثير عَنْ مَلِكَ الروم "نقفور" لما راسَلهُ المسلمون من أهل الثغور، يطلبون منه بعضَ اصحابه ليقيموا عندهم، لدفع إتاوة إليه، فما كان منه إلا أَنْ احرقَ رسالةَ رسولهم على رأسه، وأحرق لِحيتَه، وقال للوفد المسلم: "أنتم كالحيّة في الشتاء تخدر وتَذْبَلُ، حتى تكاد تموت، فإن أخذها إنسان وأحسن إليها، وأدفاها، انتعشت ونهشته، وأنتم إنما اطعتم لضعفكم، وإن تركتكم حتى تستقيمَ أحوالكم، تأذيت بكم ثم غزاهم وفتح ثغورهم بحد السيف(32".
ولذا كانت مراسلاتُ سيف الدولة، إلى ملوك الروم، تعتمد العنف أسلوبا، والحرب النفسية أسلوبا آخر، ذلك أن رسول ملك الروم، سار في طريقه إلى سيف الدولة على هام الروم المفلقة حينا(33):
وقد سارَ في مَسراك منِهْ ُرسولهُ فما سار إلا فَوْقَ هامٍ مُفَلَّقِ
وحينا يكتبُ الجوابَ على قذالِ دُمستقهم بحِدّ السيف بعزة(34):
وَكُنْتَ إذا كاتبَتْهَ ُقَبْلَ هذه كَتَبْتَ إلـيه فـي قَـذالِ الدُّمُسْتُقِ



(6)
وأما من وسائل الاتصالات الأخرى، التي يتعرف بها الجند على بعضهم فالزي الإسلامي، كالعمائم فوق هام الفرسان(35):
حتى عَبَرْنَ بِأَرْسِناسَ سوابحاً يَـنْشـُرْنَ فيـه عمائـم الفرسان

أو يميَّزُ ممدوحُه بالعِمْة من فوق المنابر، والخيول الناهدات في حالتيه: جالسا وراكبا(36):
وَأَحْسَنَ مُعْتَمٍّ جُلوساَ ورِكْبَةً على المِنْبَرِ العالي أو الفَرَسِ النَّهْدِ

ومن وسائل اتصالاتهم البريدُ(37)، الذي وظّفه وسيلةَ اتصال سريعة تنقل الاخبار ساعة بعد ساعة(38):
تُهِْدي لَهُ كُلَّ ساعةٍ خَبـَراً عـن جَحْفـَلٍ تَحْتَ سَيْفـِهِ بائـدْ

ومن وسائل اتصالاتهم المراسلون، ممن يحملون لقادتِهم بشائرَ النصر، وهزائمَ الخصم، وقد يحملُ بعضُهم رأس المعادي وتاجَه، دليلا على صدقه، فيبتهجُ القائد ويأمر بضرب الدبادب، على بابه، إعلانا بالنصر، شأن المراسلين ممن حملوا لعضد الدولة بشائرَ النصر(39):
ومُوْضِعا في فِتانِ ناجيـةٍ يَحْمـِلُ في التـَّاجِ هامةَ العاقدْ

ومن وسائل اتصالاتهم الرَّكبان: إذ يسألونهم عن أخبار القوم، وبهم يستدلّون على أحوالهم وطرقهم(40):
لما أقمت بإنطاكيّـة اختلفـتْ إليّ بالخبرِ الرُّكبانُ في حَلَبا
فَسِرْتُ نَحْوَك لا ألَوي على أَحَدٍ أَحُثُّ راحلتي: الفقرَ والأدبا

والطلائع "الخيل المتفرقة في كل ناحية" وسيلةٌ من وسائلِ الاتصال، وجلبِ المعلوماتِ عن الخصوم، وهي لِكَثْرَتِها وتوزيعها في محاورَ للقتال، تستطيع العدوَ وتُعجِزُ الخصم عن صدها بطلائعه(41):
وَمَبْثُـوْثةً لا تتَّقـى بِطَلِيعَـةٍ ولا يُحتمى مِنَّها بِغَوْرٍ ولانَجْدِ

ومن وسائلِ اتصالاتِهم تَعَرُّفُهم على أثر الخيل على الصفا، إذ نقوشها صدورُ البزاة(42):
تَماشي بأيدٍ كُلّما وافتِ الصَّفا نَقَشْنَ بـهِ صَدْرَ الُبزاةِ حوافيا

ولعلَّ اقتفاءَ الأثرِ بعد تحديدهِ يعينُ على تحديد الاتجاه، وعددِ الأفراس، وَربَّما يحدَّدُ زمانَ الحركةِ ومكانَها ، وبرزتْ ظاهرُة الاستطلاعِ والترقّبِ لاستجلاب المعلوماتِ عن العدو، ولعلّها من أهمَّ غايات وسائل الاتصالات، لأنها تحدَّدُ العدَّو وقوَّتَه وتستطلعُ المعلوماتِ عنه، بالقُوّةِ المسلحة، فلابدَّ من أنْ يُرْسَلَ المترقَّبُ في واجب، كأَنَّهُ الصَّيادُ المحترفُ الذي عليه ألاَّ يَعْطُسَ أو يُصوَّت فيهربَ صيده(43):
يُمْسِكُ فاه خَشْيَةَ السُّعـالِ مـِنْ مِطَلعِ الشَّمسِ إلى الزَّوالِ

وقد يَقُوْم بدورِ ملاحٍ بِبُوصَلَتِهِ، فلا يفقدُ اتجاهُهُ أثناءَ الحركة، إذ يَمُدُّ القنا بين أذان الخيلِ المدرَّبة، فتسيرُ باتجاهِ ما تشيرُ إليه صدورُ القنا، وذلك لِحُسْنِ تدريِبها أولًا ولِحِفْظِ الاتجاه ثانيا ،والإشارة هذه وسيلة دلالة واتصالات (44):
وَجُرْداً مَدَدْنا بَيْنَ آذانِها القُنا فَبِتـْنَ خِفافـاً يَتَّبِعْنَ العواليا

وملاحظة ُغُبارِ لاصق بجلود الخيل يَدُلُّ على نوعيّةِ الأرض، التي أثارتها الخيلُ في عَدْوِها، فيحدّد اتجاهَها، ويستخبر بها تُعَدُّ اتصالاتٍ، يبدو على أبدان الخيل كالطرائق في البرد(45):
حَثَتْ كُلَّ أَرْضٍ تُرْبَةً في غُبارِهِ فَهُنَّ عَليهِ كالطّرائِقِ في البُرْدِ
ثالثا: الشئون الإدارية
تنشعب من الشئون الإدارية فروع عدة، لذا نتكلف مخططا إيضاحيا تسهيلا للدراسة على النحو التالي:






























حرب داخلية حرب الروم

(1)
أمّا الصيانةُ فبرزتْ في تنظيفِ الأسلحةِ، وإعدادِ الخيل، كَمَعّدا ت ٍلقتال، في شعر المتنبي، ذلك أن الشاعرَ نفسَهَ يُعُدُّ سَيْفه، ويمسحُ عنه آثار الدماء، صيانة(46) :
وَبـِتْنـا نُقَبَّـلُ أسيـافّينـا وَنَمْسَحُهـا مـن دمـاءِ العِدا
فلابدَّ من مَسحِ الدماءِ، عن السيوف، كي لا يجف عليها وهو صيانة لها(47):
يَبِسَ النَّجيعُ عليهِ وهو مُجَرَّدُ مـن غِمْـدِهِ وكأنَّما هو مُغْمَدُ
ومن الصيانةِ إماطةُ ما يَنْعَفِرُ من التَّرِاب على السّلاح(48)
وَمُنْعَفِرٍ لِنَصْلِ السَّيفِ فيـهِ تَوارِى الضَّبِّ خافَ من احتراشِ
وقد يعوجُّ فلا بدَّ من إصلاحه، خاصة إذا اندق في ضلوع الخصوم(49):
إذا اعْوَجَّ القنا في حامِليـهِ وجازَ إلى ضُلوعِهـمِ الضُّلوعا
أو إذا اندقّ في الخصم، فلابد من إصلاحه بعدأن نيل الثأر به(50)
ونالتْ ثأرَها الأكبادُ مِنـْهُ فَأَوْلَتـْهُ اندقاقـاً أو صُدُوعـا

أما تجهيز الخيل وإعدادها للقتال، فبرزت في غير صورة، وذلك حفاظا على قوتها في الشدائد، لتظل سنابِكُها قوية، تحوِّلُ الصخور القاسيات رمالا في طرادها(51):
إذا وَطِئَتْ بأيدِيها صخوراً يَفِئـْنَ لِـوَطْءِ أَرْجُلِها رِمـالا
ولابد من إنعال الخيل، وإن كان جسوم الخصوم طراقا لنعالها(52):
إذا أُنْعِلْنَ فـي آثـارِ قـومٍ وإن بَعُدوا جَعَلْنَهُمُ طِراقا

ولا تنحصرُ تجهيزاتُه بالانعال، بل يمتدُّ إلى تدريعه بتجافيف كالفارس نفسه، وهي وقاية-لا شك- له(53):
حَوِاليهِ بَحْرُ للتجافيِف مائِجٌ يَسيِرُ به طَوْدٌ من الخَيلِ أَيْهَمُ

وتتحوَّلُ دلالةُ الصيانِة إلى حماية خلفية للخليفة، لصيانةِ مهجته، بإرسال الأبطال لحمايته، إذ تعادل الأبطال السيوف والخليقة الغمد (54):
صانَ الخليفةُ بالأبطالِ مُهْجَتَهُ صيانةَ الذَّكرِ الهنديِّ بالخَلَلِ

والشّاعر يحِّول مَدْحَه أعراض ممدوحيه، صيانة يكسوها حللا أبهى اللباس، على محمل تشبيه تمثيلي(55):
إذا خَلَعْتُ على عِرْضٍ له حُلَلا وجدتُها مِنْهُ في أبهى من الحُلَل
(2)
وأَمّا تكديسُ الطّعام فبرزَ في"مطاميرَ" بالقرب من سُميساط في الثغور الجزرية فيقول(57):
وَدُوْنَ سُميساطَ المطاميرُ والمَلا وأوديـةٌ مجهولـةٌ وُهُجـُولُ

وأمّا إعلافُ الخيِل فَيتمُّ بِعزةٍ، إذ يُرفَعُ الحَبٌ على هام العدا بعلائقَ لها، كعادتها(58).
تَعَّودَ ألا يَقْضُمَ الحَـبَّ خَيْلُهُ إذا الهاُم لم تَرْفَعْ جَنوبَ العلائِق

ومن أعلافها عُشبُ الأعادي لسطوةِ الخيل، وقهِر الخصم، وقد كثرت الصوائفُ والشواتي، في عصر الشاعر، إذ يغيرون على الروم فيهما، ويُغار عليهم أيضاً، والخيل ترعى في ثغور "هنزيط" تصول بها وتجول(59):
وأصْبَحَتْ بقِـرى هنْزِيِطَ جائلةً تَرعى الظُّبى في خَصيبٍ نَبْتُهُ اللِّمَمُ

ويضافُ إلى ما ذُكِر حملهم المؤن والماء والإمدادات على الإبل المرافقة، من جهة، ولحمل الأساري السبايا من جهة أخرى(60):
فَكُلّما حَلَمَتْ عـذراءُ عِنْدَهُـمُ فإنّما حَلَمَتْ بآلسبي والإبِلِ
(3)
وأمّا الماء والتزوُّد به فحدَّد الشاعرُ بعضَ أمكنته، عندما قمعَ سيفُ الدولة فِتَنا داخلية، عصفت في عَمَله، وخالفت عليه، وقد أورد البَكريّ أماكنَ المياه في ترجمتهِ الراموسة (61)،إذ ذكر ما يُمْكِنُ أن يسمى اليومّ" مراحل" تقدم سيف الدولة في مسيره الحربي، يمكن ترسمها على النحو التالي: من الراموسة ضيعة على ميلين من حلبِ "إلى تل ماسح، إلى مياه الجيار، إلى مياهِ البديّة إلى ظاهرِ سَلَمْيِة إلى مياه حيران إلى مياه الغيثر إلى ماء الحباة ثم يجتاز بركايا الغوير ونهيا والبيضة والجفار وهي موقع الشاهد كما يقول النحاة، فالمواقع المائية الأخيرة ذكرها في شعره، ثم يأتي تدمرَ ثم عرض ثم الرصافة ثم ينتهي أخيراً بالرَّقة.
إنّها كما ترىِ ثلاثَ عشرة مرحلة، كان يَمُرُّ بها سيفُ الدولةِ في تحركاته الداخلية، لِقَمْعِ الفتنِ التي تَعْيَثُ في عَمَلِه، ونلحظ أن أكثرَ هذه المراحل أماكن تزويد مياه، مما يَدُلّ على تخطيطٍ إداري لسيف االدولة، بدءا بالراموسة وانتهاء بالرقة الفراتية، فالشاعر يذكر(62) :
وقد نَزَحَ الغُويرُ فلا غُوْيـرٌ ونهيـا والبُيَضْةَ ُوالجِفـارُ

كما أَنَّ سيفَ الدولةِ يتتّبع القبائلَ المتمردةَ عليه، عند مواقع المياه فيطلبها هناك(63):
طَلَبْتَهُم على الأمـواهِ حتّـى تَخـََوَّفَ أنْ تُفَتَّشهُ السحاب

هذه خطته الإدارية بتزويد الماء داخليا، فكيفَ كان يتزوُّد بالماء في حروبه للرومِ خارجيا؟
يُبدو أنَّ خُطَّةَ التزويد بالماء في حربه للروم، كانت تعتمدُ على مصادرَ مياه منها تَفرُّعُ الأنهارِ في منطقة الثغور، إذ كانت تَشْرَِبُ الخيلُ على شكائمها منها(64):
قَادَ الَمقانِبَ أقصى شُرْبِهـا نَهَلٌ على الشَّكيم وأدنى سَيْرِها سُرَعُ
ومنها البحيرات كبحيرة سمنين(65):
وَشُزَّبٌ أَحْمَتِ الشّعرى شَكائِمَها وَوَسَّمتْهـا علـى آنافها الَحكَمُ
حَتِّى وَرَدْنِ بِسِمْنِيـنٍ بُحيرتِـها تَنِشُّ بالمـاءِ في أشداقها اللُّجُمُ

ويتوافرِ الماءُ بكثرةِ حتى تسبحَ الخيلُ فيه، ولا بدَ إذن من التزِّود منه لتوافره(66):
تَجَفَّعلُ الموجُ عن لَبّـاتِ خَيْلِهم كمـا تَجَفَّلُ تَحْتَ الغارةِ النَّعَمُ
عَبَرْتِ تَقْدُمُهُمْ فيِه وفـي بَلَـدٍ سُكَّانـُهُ رِمَـمٌ مَسكونُها حُمَمُ
ويجدون الماءَ باردا أحيانا، فتنكمشُ لبرودته خُصى الفحول فتبدو كالخصيان(67):
يَقْمُُُصْنَ في مِثْلِ المُدى من باردٍ يَذَرُ الفحولَ وَهُنَّ كالِخصيان
(4)
ومن الشؤون الإدارية مناطقُ استراحةِ الجند وإسكانِ القادة، وقد برزتْ في الشّعر منطقةٌ واسعة لاستراحِةُ جند سيف الدولة، تمتُّد من نَهِرْ الفرات إلى دمِشقَ، دون أن يحدّد مواقَعها بِدقة، ربَّما حفظاً للأسرار العسكرية، أو لترهيبِ العدو بسعتها، وانتشارِ القوات العربية بكثرة، على مَحْمَلٍ من رفع الروح المعنوية، فها هو الجيشُ العربي يستريحُ فيها، بعد أن يغيرَ على الروم من واسط العراق(68):
يُغيرُ بها بين اللُّقان وواسـطٍ ويـُركِزُها بين الفُراتِ وجِلِّقِ

وفي منطقة الاستراحِة تُضْرَبُ الخياُم للقادة خاصة، إذ توقِعُها الريح أحيانا،ً لشدتها، فيفلسفُ وقوَعَها، طمعا بالرّحيل والفتوح(69):
أيقدَحُ فـي الخيمِـة العُذَّلُ وتشمَـلُ مـن دَهرهـا يَشْمَلُ
ولمـّا أمـرْتَ بِتطنيبِهـا أُشيــعَ بأنـّكَ لا تَـرْحَـلُ
فما اعتمدَ الله تقويضهـا ولكـنْ أشـارَ بمـا تَفْعـَلُ

وقد تقام الخيامُ في صحارى لا يتحَّملُ حَرَّها إلا أشدّاءُ الرجال(70):
مُخَيَّمُ الجمعِ بالبيداءِ يَصْهَرُه حَرُّ الهواجرِ في صُمٍّ مِنَ الفِتنِ

وَتُفْتَرَشُ البسُطُ في أماكن استراحة القادة، وعليها تيجانُ ملوك الروم، وصورهم، فَتُذُلُّ التيجاُن ساعتئذ وتعلوها العمائم الإسلامية(71):
وفي صورةِ الرومي ذي التاج ذِلَّةٌ لأِبلجَ لا تيجانَ إلا عَمائِمُهْ

وتتنوع الاستراحات طولاً وقصراً؛ فقد تكون طويله كالتي ذكرنا وقد تكون استراحة محارب قصيرة مُتوثبة، استراحة في ظلال خيول مطهمة تقيد الأوابد إذا طاردتها(72):
يَتَقَيَّلُوُنَ ظِلالَ كُـلِّ مُطَّهـَمٍ أَجَلِ الظّليم وَرِيْقَةِ السِّرحانِ

كما تنوّعتِ استراحةُ القادة، فشتانَ بين كثرةِ نومِ الخويدم، كافور الإخشيدى، الذي هرب الشاعر من عنده، مستغلا غفلته، وكان من قبل نائما في جهلة على قربة منه(73):
ونام الخويدمُ عـن ليَلِنـا وقد نامَ قبلُ عَمىً لا كَرى
وكانَ علـى قُرْبَـةِ بيننـا مهامـهُ من جَهْلِهِ والعمى

وبين قِلِة نوِم سيفِ الدولة، الذي انشغل بالروم، واقفا مع الله في جانب فقل رقاده(74):
وَأنْتَ مع اللهِ في جانبٍ قليـلُ الرُّقـادِ كثيرُ التعبْ

ويبدو أَنَّ قلةَ رُقادِ سيف الدولة، أرهقتِ الرومَ، وأسهرتْ قواتِهم الخلفيةَ لما لخطورتِها من أهمية(75):
شَنَنْتَ بها الغاراتِ حتى تركتَها وجفنُ الذي خَلْفَ الفرنجِة ساهِدُ

ولا ريبَ في أن تيقَّظَ سيفِ الدولة، أقضَّ مضاجعَ الروم، وافترشَ لجُنوبهم شوكَ القَتاد، وانتقل رعُبه إلى نفوسِهم في الليل، فرأوا منه رماحا في كلاهم؛ أحلاما في سهادهم، وهو ما يُسمّى اليوم بالصدمة النفسية "عصاب الحرب" (76)،كيف لا؟ ألم يصفه الروم بالمحارب الوحيِد الأعظم السامي الذي أعلنَ الحرَب المقدسةَ على النصرانية كما أسلفنا؟ إذن فلا غروى أن يكونُ بتيقَظهِ ابتعث الرعبَ النفسي للروم في يقظتهم ومناماتهم(77):
وَكَيْفَ يَبيتُ مضطجعاً جبَـانٌ فَـرَشْتَ لِجَنْبهِ شوكَ القتَاد
يرى في النومِ رُمْحَك في كُلاه ويخشى أن يُراه وفي السُّهاد

ولعلَّ تيقَظَ سيفِ الدولة يعادل تيقظ الشاعر نفسه، فالقلق مشترك وإن كان الواجب لكل منهما مختلفاً؛ ضيقاً واتساعا؛ ذلك أنّ الشاعر، لم يسترح في أرضِ نخلةَ، إذ كان فيها سجينا مضطهدا، وقد أعتاد أن يفترشَ صهوةَ حصانِه بلباسه الحربي(78):
مـا مُقامـي بـأرضِ نَخْلـَةَ إلا كَمُقـامِ المسيحِ بين اليهـودِ
مَفرشي صهوةُ الحِصان ولكـ(م) ن قميصي مسرودةٌ من حديد

وهو توَّاقٌ إلى ساحِ الحرب، متأَبِّ على استجمامِ شِعْبِ "بَوّان" يَرُدُّ على حِصانه في محمل التشخيص(79):
يقولُ بِشِعْـبٍ بَـوّانٍ حِصانـي أعـنْ هـذا يُسارُ إلى طعان
أبوكـم آدمٌ سَـنَّ المعاصـي وَعلَّمكـمْ مُفارقـةَ الجِنـان

كما تلفَّتَ إلى التيقّظ أثناءَ الإناخة للاستراحة(80):
فلمَّا أَنَخْنا رَكزْنا الرّمـا(م) حَ فـوق مكارِمنـا والعُلا

وهو يعادلُ به تيقّظَ ممدوحه في حِلَه وتِرحاله، في حَرْبِهِ واستراحته.
(5)
ومن الشؤون الإدارية المراسم التي استقبِل بها وفدُ الروم المفاوض للهدنة، بين ملك الروم وسيف الدولة، إذ برزَ في مشهد المراسمِ، رسولُ ملك الروم، لابسا درِعا، يَخْفِقُ قلبُهُ هلعا، وهو يمشي بين صفين متقابلين من جند سيف الدولة، بعد أن اصطفوا في مراسم عسكرية لاستقباله، فلما رآهم رسول الوفد، كاد أن يسقط رعبا، وهو يمشي باتجاه سيف الدولة الجالس على بساط الملك الرومي وعليه تاجه، يبدو أن سيف الدولة كان غنمه، وتعمّد أن يجلس على رأسه؛ إشارة إلى علو مكانته فوق الملك، فقسّم رسول الوفد نظرته بين سيف الدولة حينا وسيفه حينا كما يرسمه هذا المشهد سنة (342هـ)(81):
أتاكَ يكادُ الرأسُ يَجْحَدُ عُنْقَـهُ وتنقدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْهُ المَفاصلُ
يُقوُمُ تقويمُ السّماطين ولَحْظُةُ سَمِيُّكَ، والخِـلُّ الذي لا يُزايلُ

وما أنْ يدنو رسولُ الملك من سيف الدولة، حتى يُحَييهً تحية عسكرية، إذ يُقبَّلُ الأرضَ بين يديه أولا ثم يقَّبلُ كُمُّه بعدها ثانيا، والكمُاة يقفون بخشوع وإجلال، مع أنّ طِرازَ السلام لدى سفراء الفرنجة في القرون الوسطى، رجوعُهم خُطوتين إلى الوراء، ووجوههم تلقاءَ الملوكِ، الذين يؤدّون التحيةُ إليهم، ثم يَمُسَونَ الأرضَ بأطرافِ قُبَّعاتهم ذواتِ الريش، ثم يلَّوحون بها فعلا مع الخطوتين الراجعتين، لكنَّ السفيرَ البيزنطي هذا قَّبلَ الأرضَ قبل أن يقبل كُمَّ سيـف الدولـة(82):
وَقَبَّلَ كُمَاً قَبّلَ التُرْبَ قَبْلـَهُ وَكـُلَّ كَمِيَّ واقفٌ مُتضائِلُ

ويعرضُ الشاعرُ صورةً مرعبة لوفد الروم، قبل لقائه سيف الدولة، ليهزمَهُ نفسياً، ذلك أنه يُسارُ بهِ في طُرِقٍ تناثرتْ فيها جُثَثُ الرّوم هنا وهناك، فَيُحَّدقُ الوفدُ برؤوس مفلّقة، وأشلاءٍ ممزَقة، فانكشفت أمامَه صورٌ حركيَة نفسية تقشعر لهولها الأبدان(83):
وَقَدْ سارَ في مَسراكَ مَنْهُ رسولهُ فما سـارَ إلاّ فَوْقَ هَامٍ مُفلَّقِ

وقَبْلَ وصولهِ إلى حَرس المراسم، تُسْتكَمَلُ المشاهدُ النفسية، فيرى الوفد لبوءةً قتلها رجال سيف الدولة، واستحيوا شبليها، لما للمشهد من رمز دال على القوة والسطوة على ملوك الغاب(84):
وأقبلتِ الرومُ تمشي إليك بَيْـنَ الليوثِ وأشبالِها
إذا رأتِ الأُسْدَ مسبـيّةً فأيـنَ تَفـِرُ بأطفالِها؟

ثم يستمرُّ في مشهدِه النفسي، إذ يُبرِزُ حرسَ المراسم في أوج تسلّحِهِ، تَلمعُ في أشعِة الشمس سيوفُه في صفّي مراسم، فيرتبكُ الوفُد لما يراه من رهبوت: مقدما وعرضا عسكريا، وهيبة عند مقابلته(85):
وأَقْيَلَ يمشي في البساطِ فما درى إلى البحرِ يمشي أم إلى البدر يرتقي؟!
والوفد يبحثُ شروطَ الهدنة بين الطرفين، ولا بَّد أن لها فوائدَ يراها الشاعر منها: تطيل أعمار الرماح عاما على الأكثر(86):
أخا الحربِ أَتْعَبْتَها فالهُ ساعةً ليُِغْمَدَ نَصْلٌ أو يُحَلَّ حِزام

ومن فوائد الهدنة عودةُ الجالين عن أراضيهم إليها، فتحتزُِ رقابهُم بسيف، فالهدنة على دخن(87):
متى عاودَ الجالون عاودْتَ أرضَهم وفيها رقابٌ للسيوفِ وهامُ
(6)
وأمّا القتلى كشأن إداري فصنفان؛ عربٌ وروم، والعرب نوعان؛ قتلى في ثوراتٍ داخلية، وقتلى في قتالِ الروم، أما قتلى العرب في الفتن الداخليِة وثوراتهم، فجماجمُ القتلى ملقاة في صحارى تأكلها السباع، فتثني على قاتليهم، بصورة تشخيصية متشفية، لأن جثثهم وجبات دسمة لها(88):
تَرَكْتَ جَماجِمَهُم في النّقا وما يتحصلْنَ للناخـل
وأنبتَّ فيهم ربيعَ السِّبـاعَ فأثنتْ بإحسانِك الشامل

ويقال مثله عن قتلى العرب، في حرب الروم ممن خالفوا أمر قائِدهم سيفِ الدولة، فقضوا بصورةٍ مخزية، يتشفّى الشاعر بقتلهم؛ ذلك لأنهم لم ينفذوا أمر سيف الدولة فنالوا جزاءَهم(89):
ونلحظ أمرين عند المتنبي في قَتْلى العرب سواء في فتن داخلية، أو في حربهِم للروم: أولهما؛ أنه لم يذكرْ خسائَر ممدوحِه وقتلاهم، وثانيا أن جثثَ العرب لم تدفن، بل تركت ملقاة في الفلاة، وفي كلتا الحالتين تشف بارز لمخالفتهم أمر قائدهم سيف الدولة(90):
قُل للدّمُسْتُق إِنَّ المسلمين لَكُم خانوا الأميرَ، فجازاهم بما صنعوا

كما أنه لم تظهر في شعره مراسمُ دفنِهم، ولا دفنِ الشهداء الذين لم يخالفوه في حملاته، ولعلَ ذلك يُعزى إلى إصراره على أن يستمر بنفخِه الحمية في الأحياء قادة وجنودا، حتى على جراحاتهِم وهزائمِهم المريرة مرات كثارا، فكأنه لا يريد أن يذكّرَهم بمصير رفاقهِم في السلاح، وهذا مما نستدل عليه من سيفياته التي عانى المسلمون هزائم كثيرة، على يد الروم؛ ذلك ما يعرفهُ كُلُّ من قرأَ حرب الثغور كَّرا وفرا بين المسلمين والروم، في عصر الشاعر، ويقال مِثْلُهُ عن عدم عَرْضهِ للسبايا العربيّات في ديار الروم، على كَثرةِ الأحداث الدالة، التي أدرجها المؤرخون من سنة (334-356هـ).
وأَمّا قتلى الروم فكثر- جنودا وقادة- إذ أبرز هاماتهِم مفلقة، فرآها وفدُ الروم، كما قتل ابن الدمستق في إحدى المعارك، وتركه أبوه صريعا في الميدان، ناجياً بروحه، مضحياً بولده قسطنطين(91):
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جريحةً وخلَّفْتَ إحدى مهجتيك تسيلُ
وقوله(92):
وما طَلَبَتْ زُرْقُ الأسنَّةِ غَيْرَهُ ولكنَّ قُسْطَنْطِينَ كان له الفدا



(7)
وأَمّا شأنُ الجرحى من مسلمين وروم، فأبرزَهم في مشاهدَ متنوعة، تارة يبدو الجرح على وجه المسلم وسيما، يتمنّى الشاعر نفسه جرحا مثله، ليزيَّن وجهَه عندئذ؛ كجرح محمد العلوي، الذي ناله بشرف في سُوح الجهاد(93):
يا ليتَ بـي ضَرْبَةً أتيحَ لـه كمـا أَتِيْحَتْ لـَهُ مُحمدُها
أثر فيها وفـي الحديد ومـا أثـر فـي وجهه مُهَنَّدُها
كما بدت الجراحُ تعادل خبراتِ الجند في سُوح الوغى، فتزداد الثقة به(94):
وَكُلّ فتى للحربِ فَوق جَبيِنِه من الضّرْب سَطَْرٌ بالأسنّةِ مُِعْجَمُ

أما جِراحُ الروم فعار عليهم، لأنهم جرحوا مدبرين لا مقبلين، كالدُّمستق الذي ولى على عقبيه جريحا، وتاركا ولده في شغار الموت:
(نجوت بإحدى مهجتيك جريحة)
ويقارن بين جريحِ مسلم، يرجعُ للقتال بخبرِة حرب؛ معتزَّاَ بها، وبين دُمستق جريحٍ، يعتزل السلاح ويترهبُن، منحطَم المعنوية، يتزيّا بالُمسوح لباسا، ويقبعُ في دبر منكفئا على نفسه، يمشي به العكاز لا العكس، خائرَ القوى، راضيا بحالته هذه، بعد أن كان يتعَّففُ على أحسنِ الدروع الدلاص، والشقر الجياد(95):
فأصبحَ يجتابُ المُسوحَ مخَافـةً وقد كانَ يَجتابُ الـدِّلاصَ المسرَّدا
ويمشي به العُكّازُ في الدَّير تائبا وما كان يرضى مَشْيَ أشقرَ أجردا
وما تابَ حتى غادرَ الكَرُّ وَجْهَهُ جريحا وخلّى جَفْنَهُ النَّقـْعُ أَرْمـَدا
(8)
ومن نتائجِ الحرب أسرى رجالا ونساء من عرب وروم، أما أسرى العرب من سيف الدولة فيعفو عنهم أحيانا، ويفك أوثقتهم؛ ولسمو خصال سيف الدولة يترفع عن سلبهم(96):
فتى لا تَسْلُبُ القتلـى يـداهُ وَيْسُلبُ عفوُه الأسـرى الوَثاقا
وبعضهم يرتعِبُ في أسره فيبولُ على فخذيه، بعد تبلل ثوبه دما(97):
فغدا أسيرا قد بِلَلْـتَ ثيابَـهُ بدم وبـل ببولهِ الأفخاذا
ومن الأسرى من تضرب رأسهٌ على عَجَل(98):
أَعْجَلْتَ أَلسْنُهَمُ بِضَرْبِ رِقابِهم عن قولهم لا فارسٌ إلاّ ذا
وبعضهم يُمَدُّ النطع تحته لتحتزَّ رأسُه(99):
إذا ضربَ الأميرُ رِقابَ قَوْمٍ فما لكرامةٍ مَدّ النُّطوعا

وقد أجازَ الإسلامُ قَتْلَ الأسير، لأسبابٍ منها؛ حالةُ اليأس منه، وعدمُ الانتفاع به، أو تخشٍ من إفشاء أسرار آسريه. وكذلك للمعاملة بالمثل(100)، فقد كان الرومُ يقتلون في أحايينَ كثيرةٍ أسرى المسلمين(101):
والأسرى العرب عند الروم نوعان، منهم من يُضحّي لأجله ويرثي، كأبي العشائر الذي مات في مصرَ، بعد قتال مضى فرثاه(102):
كُنّا نَظـُنّ ديارَه مملـوءَةً ذهباً، فماتَ وَكُلُّ دارٍ بَلْقَعُ

ومنهم خسِاسٌ ضعاِفٌ، لم يطيعوا أمرَ قائدهم، واختفوا بين جثث الروم فأسروا، فَخَلّص الله بهم جَيْشَ سيـفِ الدولة من أدرانه، فتشفّى بأسِرهـم وقتلهـم(103):
وجدتموهم نِيامـا فـي دِمائِكـم كـأنَّ قتلاكم إياهـم فجعـوا
لا تَحَسبُوا مَن أَسَرْتُمْ كان ذا رمق فليـس يأكل إلا الميّتَ الضَّبُعُ
وإنمّا عَرَّضَ الله الجنـودَ بكـُم لكي يكونوا بلا فَسْلٍ إذا رجعوا

أما السبايا فنوعان عربيَّةٌ وروميَّة، أما السبيات العربيّات، فيطلقن معززّات إلى أهلهن، دونما مَساس بِكراماتهن؛ على ما لقينه من ذعر ورهق وسقوط خُمُرهن(102):
وأرهقتِ العـذارى مُرْدَفاتٍ وأوطئـِت الأصيبيةُ الصِّـغارُ

وقوله(103):
فَعُدْنَ كما أُخِذْنَُ مكرّمـاتِ عَليـِهِنَّ القَلائـدُ والمَـلابُ

ويعزي ذلك للنسب النزاري المشترك، وحق الجوار، وإكرام العربي للمرأة العربية(104):
لهم حقٌّ بِشِرْكِكَ فـي نِزارٍ وأدنى الشَّرْكِ في أصلٍ جوِارُ

أما السّبايا العربياتُ عندَ الروم، فلم أقرأْ لهن ذكرا عنده، ولا أدري أكان يخجلُ من ذكرهن؟ أم أنه يَعْرِضُ صَفْحا عَنْهُنّ حتى لا يثيرَ في النفوس العربية ضعفا وهواناً، وهو الداعي في شعره إلى نفخة الحرب وصيحاتِها في ميدان القتال؟
أما السَّبايا الرُّومياتُ فَعَرَضَ منهن مشاهدَ عِدَّة، فمنهن من يحتمين بجمالهن، فلا تضرب أعناقهن لأجِلِه(105):
فلم يبق إلا من حَماها من الظُّبا لمى شفتيها والثُّدِيُّ النواهدُ
ومنهن كَواسُد عند العرب؛ والبطارقُة يبكون بحسرة عليهن ليلا (106):
تُبَكِّى عليهنّ البطاريقُ في الدُّجى وَهـُنَّ لدينا مقلياتٌ كَواسِدُ

ومنهن أسيراتُ خوف، وإن لَمْ يُسبَيْنَ بعدُ، إذْ كلما نضجت فتاةٌ رومِيةٌ، حَلَمَتْ بالسبي العربي، وهي محمولة على الجمال العربية؛ تعاني في ما يسمى بـ "عُصاب الحرب"(107):
فَكُلَّما حَلَمَتْ عَذْراءُ عِنْدَهُمُ فإنّما حَلَمَتْ بالسّبي والجَمَلِ
وَيُبَرزُ الشأنُ الإداريّ هنا، إذ يُحْمَلْنَ في قواربَ مع بقيِة الأسرى سبايا(108):
دُهُمٌ فَوارِسُها، رُكَّابُ أْبطُنِها مَكـْدودةٌ وبقومٍ لا بها الألِم
تَلْقى بِهِمْ زيدَ التيارِ مُقْرِبـَةٌ على جحاِفلها مِنْ نَضْحِهِ رَثَمُ




(9)
ومن الشؤون الإدارية الطبابة، وأبرزُها الفَصْدُ بالمِبضع، شأنُ من فَصَدَ بدَر بن عمار، بمبضع فوق حقه فأضرَّهُ به ؛ ويبدو أنَّ الفَصْدَ كانَ في يدهِ لإزالة دمٍ فاسد، لكن الفَصْدَ لم يُؤثّر على جود يده(109):
يَشْقُّ في عِرْقِها الفِصادُ ولا يَشُقُّ في عِرْقِ جُوْدهِا العَذَلُ

وأشاد بفصدِ بقراط في الطّبَ في تشبيهه كَلْبَ صيد مدرباً، على فَصْدِ صَيْدِه من أكحله(110):
كأنّه من سعِة في هوجـل كأنـَّهُ مـن علمـه بالمقْتـلَ
عَلَّمَ بقراط فِصاد الأكحلِ
والشاعر نفسه أصيب بحمى في مصر في سنة (248)هـ، شَخَّصَ أعراضَها طبيب وعزاها- خطأ- إلى طعام وشراب كان تناولهما(111):
يَقولُ لي الطبيبُ أَكَلْتَ شَِيئا وداؤكَ في شرابِك والطّعام
ولكن الشاعر طموح إلى ميدان الحرب، وقد طال جمامه، فأضر به ذلك(112):
وما في طِبْه أَنّـي جَـوادٌ أضرََّ بِجِسْمِهِ طُوْلُ الجِمامِ
تَعَوَّدَ أنْ يُغيِّرَ في السَّرايا وَيْدخـُلَ من قِتامٍ في قتامِ

ومُلَخُّص القول، إن الشؤونَ الإدارية، والاتصالات في الحرب عند المتنبي، ظاهرةٌ لافتةٌ أدارَها في شعرهِ، لعلها تُبْرِزُ إرهاصاً لمصطلح "Logistics" الذي يتركَّزُ أساسا في مسألة إدارةِ شؤون الجند، وصيانةِ أسلحتهم، وتأمينِ عسكرهم، على أسس منظّمة؛ تمكنوا خلالها من إدارة عملياتِهم العسكرية، وَوَقفوا في وجهِ الروم ستينَ سنة، في عهد سيف الدولة الحمداني الذي أطراه المتنبي، وصوَّرَ وسائلَ التزويد وشؤونَ الإدارةِ في عهده عامة، مما حدا بمؤرخي الفرنجة وقادتِهم أن يُسمّوهُ البطلَ الوحيدَ الواقفَ في وجه النصرانية آنذاك.

































*أنظر: عين زربي، والمصيصة، ومرعش، والحدث، وسميساط، وملطية ونهر قباقب، ونهر اللامس، وغيرها وقد أشرت إليها بنجمة خماسية صغيرة*
المرجع: بلدان الخلافة الشرقية: كي لسترنج، تعريب بشير فرنسيس وكوركيس عواد، مؤسسة الرسالة، ط2، 1985، ص165.






























*أنظر: الثغور وبعض المواقع التي ذكرت في النص منها مرعش وملطية وبالس وحرآن، ومنبج وحلب والمصيصة، وسمسياط وسروج وغيرها، فتساعد مع الخريطة السابقة على تكوين صورة تقريبية لمواقعها.
المرجع: أطلس تاريخ الإسلام، الدكتور حسين مؤنس، القاهرة: دار الزهراء، خريطة رقم 79، ص151.
رابعاُ:الهوامش

1- كوركيس عواد، وميخائيل عواد: رائد الدراسة عن المتنبي، الجمهورية العراقية، وزارة الثقافة والفنون، دار الرشيد، بغداد، المعاجم والفهارس، 1979، وفيه ترجمات شعره إلى غير لغة من لغات العالم وانظر:
-مجاهد مصطفى بهجت (الدكتور): المكتبة الشعرية في العصر العباسي، (123-656هـ) دار البشير: عمان، 1994.
- الجبوري، عبد الحق (الدكتور): أبو الطّيب المتنبي في آثار الدارسين، منشورات وزارة الثقافة والفنون الجمهورية العراقية، 1975، وقد صدر بمناسبة مهرجان المتنبي، بغداد، تشرين2، 1979، إذ قسّمة أربعة أقسام: تراجمه وديوانه، وشروحه ومختصراته وطبعاته ومَعلماته ومعاجم الرجال.
2- محمد فتحي أمين (الفريق الركن): قاموس المصطلحات العسكرية، ط2، (د.م) و(د.ت)، ص296، وانظر مصطلح (Logistics)، الذي بمعنى حَلَّ مسالة إطعام الجند وصيانة أسلحتهم وانظر: منير شفيق: علم الحرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1988، ومجلة دراسات عربية: عدد6، نيسان، 1972,
3- ومنهم من عَدّ إدارةَ الحرب كممارسة الطب الذي يحرص على وقاية المريض، ومثله القائد الحريص على وقايةِ شعبه من الحرب والتخفيف من ويلاتها انظر: فوللر، ج.ف.س: إدارة الحرب من عام 1789حتى أيامنا هذه، تعريب وتعليق أكرم ديري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1981 (المقدمة). وتنبَّهَ بعضِ البَحَثَةِ إلى تسجيلات تاريخيةٍ في تاريخ مصر القديم شكَوا من مشاكلَ إدارية أثناء حربهم مع الفراعنة، وأَنَّ الجيشَ ذا الإدارة الجيدة قد يقهر جيشا أكبر منه، إذا كان ذا إدارة سيئة كانتصار جيش الإسكندرية المكدوني على جيش الفرس في معركة إبريلاسنة (331ق.م)، انظر: السّلوم، يوسف إبراهيم (العميد الركن): بحوث ودراسات، دار المرية، الرياض، ط11، 1979، ص799-82، وبعضهم وقف عند نظريةِ الإسلام في القيادة العسكرية وقواعدها في إعداد الدولة للحرب والشعب للمعركة، مرتكزا على اقتصاديات الأمة للحرب ورعاية نتائجها كَأَسْرِ المقاتلين والشهداء والمهجرين، ومواجهة نتائج الهزائم واستيعاب دروسها، والوقاية من أساليب الحرب النفسيّة، أنظر:
- محفوظ، محمد جمال (اللواء): المدخل إلى العقيدة الإستراتيجية العسكرية الإسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976، ص424-432.
-وتوقف بعض البَحَثَةِ عند الشؤون الإدارية في الحرب ونتائجها كالصَّدمة النفسية في علم الحروب وأسموه بـ "عُصاب الحرب" وكيف يعالج؟ انظر
- مجموعة باحثين، إشراف الدكتور محمد أحمد النابلسي، دار النهضة العربية: الصدمه النفسية، علم نفس الحروب والكوارث، بيروت، ط1، 1991، ص31-37.(عُصاب الحرب القدمي). وبعضهم اهتمّ بعلم النفس في القوات المسلحة فدرس البيئة العسكرية والتكيف منها بيئة وإنسانا، انظر:
- شاندس، شارل (العقيد): علم النفس في القوات المسلحة، تعريب محمد ياسر الأموي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1983، وبعضهم تنبّه إلى مشكلات ما بعد المعركة كالاسرى والجزية والغنائم وقدم بحثا في المدرسة الإسلامية العسكرية:
- محمد فرج: المدرسة العسكرية الإسلامية، دار الفكر العربي، منقحة ومزيدة، ط2،(د.ت) مشكلات ما بعد المعركة (567-586).
- محمد فرج: المدرسة العسكرية الإسلامية، ط2، دار الفكر العربي (د.م) الذي نقل عن منير شفيق.
- منير شفيق: علم الحرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1988، ص175-182.
- مجلة دراسات عربية، عدد6، نيسان، 1972.
4- كلوب، سير جون (جنرال): امبراطورية العرب، تعريب خيري صماد، دار الفكر العربي، بيروت، 1966، (المقدمة) خَفَّف من تجنّيه على العرب، وحاول تصحيح صورة العربي عند الغرب.
5- ابن منظور: لسان العرب المحيط، إعداد يوسف خياط، وتقديم عبد الله العلايلي، دار لسان العرب، بيروت، (د.ت) مادة (خَرْت). وهو الثقب في الإبرة والفأس وجمعها أخرات وخروت، وفي حديث عمرو بن العاص لما احتضر "كأني أتنفس من خَرْتِ الإبرة".
6- شرح ديوان المتنبي، وضعه عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي،بيروت لبنان، ج1، ص146-147، كل ما يرد بعد هذا يشار إليه ديوانه، (ج1، ص145-146).
7- ديوانه، ج، ص145-146، والصِّوار: قطيع من البقر.
8- ديوانه، ج2، ص252.
9- ديوانه، ج1، ص212.
10- ديوانه، ج4، ص76، وانظر: "المسعودي، أبو الحسن علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت، 1982، ج4، ص334، حيث شعارهم السواد.
11- المحاسني، زكي (الدكتور): شعر الحرب في أدب العرب، دار المعارف بمصر، ط2، (د.ت)، ص264
12- ديوانه، ج4، ص134.
13- ديوانه، ج4، ص76، (البيتان).
14- ديوانه، ج2، ص334.وانظر زيارة النسر للقتلى (ج2، ص225) والقتلى منار، ج2، ص211.
15- ديوانه، ج2، ص225.
16- ديوانه، ج2، ص211، المنار: العلم يُنْصَبُ في الطريق.
17- ديوانه، ج3، ص223.
18- انظر الحادثتين عند: ابن الاثير عز الدين أبو الحسن علي بن المكارم محمد محمد بن عبد الكريم الشيباني: الكامل في التاريخ، بيروت: دار الكتاب العربي، 1966، ج8، ص508، أحداث (339هـ)، ومجلد7، ص399، دار الكتب العلمية، ط1، 1987، وابن خلدون، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت: دار الكتاب العربي، مجلد4، 1، أحداث سنة (338هـ)، والديوان، ج2، ص189.
19- ديوانه، ج3، ص259، أخذوا الطرق يقطعون الرُّسل عن النفاذ إلى سيف الدولة.
20- ديوانه، ج1، 245.
21- ديوانه، ج3، ص277، انظر العصيانات على معز الدولة (سنة 345هـ) وعصيان أهل حران على سيف الدولة سنة (352هـ)، وحتى عصيان نجا خادم سيف الدولة سنة (353هـ) ومخالفة أهل أنطاكية على سيف الدولة سنة (354هـ) وغيرها كثير (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج8، ص514 و547 و551 و560 بالترتيب).
22- ديوانه، ج1، ص295، تطلّس: طمس.
23- ديوانه، ج3، ص208.
24- ديوانه، ج2، ص272 و275، والسحاء: ما يشد الكتاب من أدم، والسنور: هو الحديد والدرع.
25- ديوانه، ج2، ص201، والأملاك: جمع مَلِك.
26- ديوانه، ج3، ص232و 233.
27- ديوانه، ج4، ص70، المشرفية: السيوف، والخميس: جيش من خمس كتائِب.
28- ديوانه، ج3، ص164، أبدلاً: بَدَلاً
29- د.زكي المحاسني، شعر الحرب في أدب العرب، ص259، و من الكتب التي اعتمد عليها شلمبرجة وفي وصفِ كتابه- وأنه قد جاء بثمانمائة صفحة من القطع الكبير مخطوطات، عقد اللؤلؤ للعيني، وتاريخ كمال الدين: مخطوط بدار الكتب الأهلية بباريس، وكتاب عن الإمبراطور بازيل البلغاري- مخطوط- ليحيى ابن سعيد البطريق الأنطاكي، وكتب المانية، انظر: شعر الحرب في أدب العرب، ص259( الحاشية 2).
30- ديوانه، ج2، ص212، وانظر قبائل بني قشير القحطانية عند: كحالة، عمر رضا (الدكتور)، معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، المكتبة الهاشمية، دمشق، 1949، ج2، ص758. وذكر قبيلة عجلان ومسكنها شمالي شرقي الأردن وجبل الدروز. وانظر عصيان نجا خادم سيف الدولة على سيده عندك الثعالبي، أبي منصور، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر،تحقيق د. مفيد محمد قميحة، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1983، ج1/61.
31- ديوانه، ج3، ص47، الظبي: حدُّ السيف.
23- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج8، ص560 وذلك (سنة 354هـ).
33- ديوانه، ج3، ص55.
34- ديوانه، ج3، ص56، القَذال: مؤخر الرأس، الدمستق: قائد من قادة الروم، ومصطلح الدمستق يعني: نائب ملك الروم في حكم البلاد الواقعة شرقي القسطنطينية (بسّام العسلي: فن الحرب الإسلامي، دار الفكر بيروت، ط1، 1988، مجلد3، ص310). وهناك الدمستق الكبير صاحب فرض الفروض والرئيس على الجماعة انظر: قدامة بن جعفر، الخراج وصناعة الكتابة، شرح وتحقيق الدكتور محمد حسين الزبيدي، دار الرشيد، الجمهورية العراقية، 1987، ص189.
35- ديوانه، ج4، ص310، أرسناس: نهر في تركيا اليوم، ماؤه بارد جداً.
36- ديوانه، ج2، ص171.
37- الخوارزمي: أبو عبدالله بن احمد الكاتب (ت. 387 مفاتيح العلوم، وتقديم.د. جودت فخر الدين، ط1 (بيروت: دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع)، 199، ص75، مادة :بريد".
و قدامة بن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة، ص77 (الحاشية). وقد أفرد الباب الحادي عشر في ديوان البريد والسكك والطرق إلى نواحي المشرق والمغرب ص77-129، وذكر الطرق إلى الثغور ومسافاتها بالفراسخ مما يدل على ربطها بشبكة بريد جيدة في عصر الشاعر ومؤلف " الخراج وصناعة الكتابة"، والبريد كلمة فارسية، وأصلها بريدة ذنب (أي محذوف الذنب) وهي بغال البريد محذوفة الأذناب، ثم خففت وسمي البغل بريدا، ويسمى الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بُعدها فرسخان بريد، والفرنسخ: أربعة أميال.
38- ديوانه، ج2، ص176، الجحفل: الجيش.
39- ديوانه، ج2، ص176، والموضع: بمعنى المسرع، والفتان: غشاء للرحل من أدم، والناجية: الناقة السريعة. انظر لسان العرب: مادة (وضع) و (فتن) و(نجي).
40- ديوانه، ج1، ص248.
41- ديوانه، ج2/169.
42- ديوانه، ج4، ص422، حذفت احدى تاءي تماشى تخفيفاً.
43- ديوانه، ج4، ص30، الزّوال: الساعة التي تلي الظهيرة.
44- ديوانه، ج4، ص421، الجُرْدُ: خيل قصيرة الشعر.
45- ديوانه، ج2، ص170، حَثَت: ذرّت، الطرائق: الخطوط، البُرد: الثوب المخطط.
46- ديوانه، ج1، ص165.
47- ديوانه، ج2، ص60، النجيع: الدم.
48- ديوانه، ج2، ص318، احتراش: صيده.
49- ديوانه، ج2، ص362.
50- ديوانه، ج2/ 362.
51- ديوانه، ج3، ص346.
52- ديوانه، ج3، ص44، الطراق: نعل تحت نَعل.
53- ديوانه، ج4، ص74.والتجافيف: جمع تجفاف وهو ما يجل به الفرس من سلاح وآلة تقيه الجراح، وقد يلبسه الإنسان أيضاً، والأيهم: الذي لا يهتدى به.
54- ديوانه، ج3، ص164.والخليفة صان نفسه بتلقيبه سيف الدولة فحفظ الخليفة نفسه به.
55- ديوانه، ج3، ص167.
56- حسين مؤنس (الدكتور): أطلس تاريخ الإسلام، القاهرة: مؤسسة دار الزهراء، (د.ت) خـريطـة رقـم (79)، ص150، وانظر موقع (سُميساط) وأرفق صورة عن الخريطة في نهاية الدراسة.
57- ديوانه: ج3، ص225، وانظر موقعها على شاطئ الفرات في المعجم العسكري الموسوعي: بإشراف العماد مصطفى طلاس، (دمشق، مركز الدراسات العسكرية) ط1، 1987، مجلد2، ص910 والمطامير: هي حفرة غائرة يخبأ بها الطعام والشراب، والملا: هي الفلاة والهجول: المطمئن من الأرض. انظر ديوان المتنبي، ج3/ 225.
58- ديوانه، ج3، ص71.
59- ديوانه، ج4، ص135وانظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج8، ص507-508،الاحداث في زمن سيف الدولة من سنة (339-355هـ) والغزوات المتكررة من سيف الدولة على الروم ومن الروم عليه.
60- ديوانه، ج3، ص207.
61- والبكري، عبد الله بن عبد العزيز:، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا (القاهرة، عالم الكتب)، مادة "الراموسة" والغوير، ج2،ص982، ونهيا والبُييضة والجفار، وقد احتج البكري ببيت المتنبي المذكور.ديوانه، ص333، ولعل نظرة إلى الإقليم السادس الذي كان الصراع يدور فيه بين الروم والمسلمين، وبين 64-المسلمين أنفسهم أن يحدد عدد الأنهار التي تبلغ (26) ستة وعشرين نهرا أبرزها نهر الفرات الذي كانت منه فروع تمر بالقرب من الثغور: كملطية وسميساط وشميشاط، ومنبج، والرقة والرحبة في الداخل.. انظر: قدامة ابن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة (الباب الخامس- الإقليم السادس (155-156) وانظر الفرات الأعلى عند كي لسترنج وهو نهر أرسناس حيث يوصف ببرودة مائه وهو عند الترك اليوم باسم "مرادصو".
62- ديوانه، ج2/ 209، أماكن مياه، وكثرة الأنهار وجداولها في المنطقة الثغور راجع المزيد عند: كي لسترنج: بلدان الخلافة الشرقية عربه بشير فرنسيس، وكوركيس عواد، ط2، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 1985 الفصل الثامنن ص147-158. وانظر خريطة رقم 4 عنده تبين الأنهار ومجرياتها في الثغور كأنهار: قراقير، والقُباقب وجَيحان، ونهر هلس، وانظر خريطة طرق المواصلات من حلب إلى الفرات في: اطلس تاريخ الإسلام: د. حسين مؤنس، خريطة رقم 74، ص144.
63- ديوانه، ج1/ 205،
64- ديوانه، ج2، 333، والمقانب: جماعة خيل.
65- ديوانه، ج4، 134، وبحيرة سمنين: على وزن فعلين: من ثغور مرعش واحتج البكري بشعر المتنبي فيها، البكري: معجم ما استعجم. ج2، ص756و 934 مادة سمنين، والشُّزب: ضوامر الخيل.
66- ديوانه، ج4، ص136، اللبّان: أعلى الصدّر
67- ديوانه، ج4، ص310، يَقمُصْنَ: يَثِبْنَ
68- ديوانه، ج3، ص54.واللقان: بلد بالروم وراء خرشنة (انظر معجم البلـدان: ياقوت الحمـوي، ج5، ص21).
69- ديوانه، ج4، ص191،194
70- ديوانه، ج4، ص345.
71- ديوانه، ج4، ص53، الأبلج: سيف الدولة.
72- ديوانه، ج4، ص312، المطّهم: الحسن التام، التقيُّل: النوم في القائلة، والظليم: النعام، والسّرحان: الذئب
73- ديوانه، ج1، ص166، الخويدم: تصغير خادم.
74- ديوانه، ج1، ص232.
75- ديوانه، ج1، ص396.
76- الصدمة النفسية عُصابُ الحرب مسببة عن كارثة تخلق محيطا مهددا بالموت، ويسمى الصدمى الناجم عن الحرب: انظر النابلسي محمد احمد (الدكتور): الصدمة النفسية (بيروت: دار النهضة العربية)، ط1، 1991، ص31-37.
77- ديوانه، ج2، ص84، وانظر أقوال شلمبرجة في سيف الدولة إشارة الحاشية (28)، أدب الحرب، للمحاسني.
78- ديوانه، ج2، ص44.
79- ديوانه، ج4، ص389و (شعب بَوَّان) بأرض فارس وهو أحد متنزهات الدنيا (ياقوت الحموي: معجم البلدان)، ج1، ص503-505.
80- ديوانه، ج1، ص165، لماّ استقرَّ بالكوفة ركز سلاحه.
81- ديوانه، ج3، ص233والأفاكل: الرِّعدة من الفزع.
82- ديوانه، ج2، ص234، المحاسني، زكي: شعر الحرب، ص287، ينقل عن بلاشير في كتابه "المتنبي"، ص174.
83- ديوانه، ج3، ص55 ويذكر الفداء الذي طلبه ملك الروم، والبساط: صف يقوم بين يدي الملك انظر: لسان العرب، مادة بسط.
84- ديوانه، ج3، ص215.
85- ديوانه، ج3، ص56.
86- ديوانه، ج4، ص114 انظر: قدوم وفد الروم لسيف الدولة يطلبون الهدنة سنة 344هـ (فن الحرب الإسلامي: العسلي مجلد3، ص315-316).
87- ديوانه، ج4، ص114.
88- ديوانه، ج3، ص161، بعـد أن استنقذ أبا وائـل تغلب العدوي، من أسر الخارجي سنة (337هـ) (ديوانه: ج3، ص152).
89- ديوانه، ج2، ص338، نكب المسلمين سنة (339هـ) بالقرب من بحيرة الحدث (ديوانه: ج2، ص329) في مناسبة القصيدة، وثبَّت هذه الحادثة ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج8، ص58، إذ انقلب نصر المسلمين هزيمة، وخسروا ما كانوا غنمـوه، وسماهـا شلمبرجـة بـ" غزوة القفزة" التي قفز فيها جواد سيف الدولة قفزة عجيبة ونجا، وكان معه المتنبي وقد حُذّرَ من روم أخذوا عليه الطرق فأبى، وكان معجبا برأيه كما يرى ابن مسكوية: تجارب الأمم، طبع شركة التمدن الصناعية بمصر، 1915، ج2، ص125. والحافظ الذهبي: العبر في خبر من غبر، حققه أبو هاجر محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1985، ج2، أحداث سنوات (345هـ)و (346هـ) و(351هـ) و353هـ) وغيرها.
90- ديوانه، ج2، ص338.
91- ديوانه، ج3،ص228،المهجة: الروح.
92- ديوانه، ج2/6.
93- ديوانه، ج2/ 30-31.
94- ديوانه، ج4/ 75.
95- ديوانه، ج2/6، المسوح: ثوب شعر، الدِّلاص: الدروع، السّرد: المنظوم المنسوج.
96- ديوانه، ج3/ 46.
97- ديوانه، ج2، ص187.
98- المصدر نفسه، الجزء نفسه، الصفحة نفسها.
99- ديوانه، ج2/ 361.
100- عبد الله المناصرة، الاستخبارات العسكرية في الاسلام، ط1 (عمان: مؤسسة الرسالة)، 1987، ص293-294، واحتجاجه بصحيح مسلم بحكم قتلهم ص297، وحجته سنن أبي داود إحياء التراث العربي، ج3/ 49، أحاديث ذوات الأرقام، (2653-2654).
101- امر الدمستق بقتل اسرى المسلمين عندما فتح عين زُربة، والحوادث كثيرة عند المؤرخين منهم ابن الأثير: الكامل ج8، احداث سنة (351هـ)، ص538-539 وحوادث السنين في الغزوات على الثغور، إذ كانت كرا وفرا والغارات سجالا.
102- ديوانه، ج2/ 209.
103- ديوانه، ج1/ 207، والمَلابُ: ضَرْبُ من الطيب.
104- ديوانه، ج2، ص209.
105- ديوانه، ج1/ 398، الظُّبا: السيوف، اللمى: سُمْرَة في الشفة.
106- ديوانه: ج1، ص398، البطاريق: قادة الروم.
107- ديوانه، ج3، ص207، والنابلسي: الصدمة النفسية، ص31.
108- ديوانه، ج4،ص.138، بمعنى فوارسها تركب بطون القوارب لا ظهورها على خلاف الخيل وفي سنة (345هـ) أعدَ سيفَ الدولة الأمة لعبور نهر ارسناس وسار من حلب إلى حِصن الران واجتاز بحيرة سمنين وأسبحَ سيفُ الدولة (خيله) حتى عبرت النهرَ خلف ارض الروم إلى تل بطريق وأحرقه، وفي ماء النهر غرق جماعة، وأقام أياما على نهر أرسناس ثم أعد سُمّاريات (سفنا صغيرة) فحمل السبي فيها ثم قفل راجعا، انظر العسلي، بسام: فن الحرب الإسلامي في العصر العباسي، ج3، ص297-333، واعتمد العسلي على شعر المتنبي مصدرا رئيسا في بحثه مما يدل على أهمية الأدب في التاريخ؛ وانظر فتح تل بطريق عند، أبي ناجي، محمود حسن (الدكتور)، الحرب في شعر المتنبي (د.م) دار الشروق، ط2، 1980، ج2، ص32 وتسلسل المعارك الثغرية زمانيا، وقد سقط حرف (و) في الشطر الثاني ولعلّ الصواب اثباته مكدودةٌ ويقوم مابها الألمُ، ديوانه، ج4/ 138، زبد الماء الرثّم في جحافل الجيش.
109- ديوانه، ج3، ص336، العذل: اللوم.
110- ديوانه، ج3، ص324، الهوجل: المفازة، المقَتَل: الموضع القاتل، الأكحل: عْرقٌ في الذراع من عروق الفصاد.
111- ديوانه، ج4، ص279 ومناسبة القصيدة، ص272.
112- منير شفيق، علم الحرب، ص20.














خامساً:المصادر والمراجع
1- أبوناجي، محمود حسن(الدكتور): الحرب في شعر المتنبي، دار الشروق،(د.م) ط، 1980، جزءان.
2- ابن الاثير، عز الدين ابو الحسن علي بن المكارم محمد محمد بن عبد الكريم الشيباني: الكامل في التاريخ،(بيروت:دار صادر)، 1966، ج8.
3- ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد الحضرمي:كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر،(بيروت:دار الكتاب العربي) مجلد4،ج7.
4- ابن منظور، عبد الله بن محمد المكرم بن أبي الحسن الانصاري: لسان العرب المحيط، اعداد يوسف خياط، وتقديم عبد الله العلايلي،(بيروت:دار لسان العرب)4أربعة مجلّدات.
5- البَكري، عبد الله بن عبد العزيز: معجم ما آستعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا،(القاهرة:عالم الكتب) جزءان.
6- الثعالبي، أبو منصور، عبد الملك النيسابوري: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، تحقيق الدكتور مفيد محمد قميحة، ط1، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 1982، ج1.
7- الجبوري، عبد الله (الدكتور): أبو الطيب المتنبي في آثار الدارسين، (بغداد: وزارة الثقافة والفنون)، 1977.
8- الحموي، ياقوت: معجم البلدان (بيروت: دار صادر)، 1995، (7) سبعة أجزاء.
9- الخوازمي، أبو عبدالله محمد بن احمد الكاتب: مفاتيح العلوم، تقديم الدكتور جودت فخر الدين، ط1( بيروت: دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع)، 1991.
10- السّلوم، يوسف إبراهيم (عميد ركن): بحوث ودراسـات عسكـريـة، ط11(الرياض، دار المريّة)، 1979.
11- شانديس، شارل (عقيد): عْلِمُ النفس في القوات المسلحة، تعريب المقدّم الدكتور محمد ياسر الأيوبي، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 1983.
12- شرح ديوان أبي الطيّب المتنبي، احمد بن الحسين، وضعه عبد الرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، (4) أربعة أجزاء بمجلدين.
13- العسلي، بسّام: فنُّ الحربِ الإسلامي في العصر العباسي، ط1 (بيروت: دار الفكر)، 1988، ج3.
14- فوللر، ج.ف.س: إدارة الحرب من عام 1789م حتى أيامنا هذه، تعريب وتعليق أكرم ديري، ط2 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 1981.
15- قُدامة بن جعفر: الخَراج وصِناعة الكتابة، تحقيق وشرح الدكتور محمد حسين الزبيدي، (الجمهورية العراقية: دار الرشيد)، 1981.
16- كحَّالة، عمر رضا (الدكتور): معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، (دمشق المكتبة الهاشمية)، 1949، ج2.
17- كلوب، سير، جون (جنرال): إمبراطورية العرب، تعريب خيري صمّاد، (بيروت دار الكتاب العربي) 1966.
18- كوركيس عواد وزميله ميخائيل عواد: رائد الدراسة عن المتنبي،(بغداد: وزارة الثقافة والفنون، دار الرشيد)، المعاجم والفهارس، 1979.
19- لسترنج كي: بُلدان الخلافة الشرقية، تعريب بشير فرنسيس، وكوركيس عواد، ط2، (بيروت: مؤسسة الرسالة)، 1985.
20- مجاهد مصطفى بهجت (الدكتور): المكتبة الشعرية في العصـر العباسـي، (132-656هـ)، (عمان:دار البشير)، 1994.
21- المحاسني، زكي (الدكتور): شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الأموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة، ط2، (القاهرة، دار المعارف) (د.ت).
22- محفوظ، محمد جمال (اللواء): المدخل إلى العقيدة الاستراتيجية العسكرية الإسلامية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب) 1976.
23- محمد فتحي أمين (الفريق الركن): قاموس المصطلحات العسكرية، ط2(د.م) (د.ن).
24- محمد فرج: المدرسة العسكرية الإسلامية، ط2، (د.م) دار الفكر العربي.
25- المسعودي: أبو الحسن علي بن الحسين: مروج الذهب ومعادن الجووووهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (بيروت: دار المعرفة) 1982.
26- المعجم العسكري الموسوعي: بإشراف العماد مصطفى طلاس، ط1، (دمشق مركز الدراسات العسكرية)، 1987، مجلد2.
27- المناصرة، عبد الله: الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ط1، (عمان: مؤسسة الرسالة)، 1987.
28- منير شفيق: علم الحرب،ط2 (د.م) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988.
29- مؤنس، حسين (الدكتور): أطلس تاريخ الإسلام، (القاهرة: مؤسسة دار الزهراء).
30- النابلسي، محمد احمد (الدكتور): الصَّدمة البنفسي، علم نفس الحروب والكوارث، ط21، (بيروت: دار النهضة العربية)، 1991.













العامل النفسي ودوره في شعر الحرب عند المتنبي
ملخّص الدراسة
نهضت هذه الدراسة بمقدمة وثلاثةِ محاورِ رئيسة هي:
1-العامل النفسي وتكبيرُ صورةِ سيفِ الدولة بالدعاية له وترصدُّه سماتهِ.
2-العامل النفسي ودورُه في قتالِ القبائلِ العربيةِ المتمرَدة على سيف الدولة.
3-العامل النفسي ودوره في رُوميات المتنبي.
أما المقدمة فالمحت إلى أنّ العاملَ النفسيَّ كانت له ادوار تندرجُ في منظومةِ الحربِ النفسية على ما يَعُرفها أهلُ الاختصاص في مجال الحرب.
وأمّا المحور الأول: فابرزَ من ادواره تكبيرهَ صورةَ سيفِ الدولةِ بسيفه باعتباره غازيا للروم طوال حياته، وتوقّفَ عند اسمه ولقبهِ وحربهِ الدينيّة لإعزازِ الإسلامِ، واستوقفتْهُ بعضُ سماتهِ الحربيةِ كَسُرعةِ الحشدِ وجاهزيتهِ للقتال، وحبَّهِ للتضّحيةِ، وافتدائهِ نفسَه أمامَ جيشه، وتوقّفَ عند سماتٍ حربيّة لِجُنْدِهِ، وكُلُّ ذلك مما يَرْفَعُ من معنويات ِالجندِ وقائِدهم.
وأمّا المحورُ الثاني: فحاول َأن يُضْعِفَ من عَزائمِ القبائلِ الثائرةِ، وتخذيلها؛ فَعَدّ خُروجَهم عليه إسخاطاً لله ،لأَّن سيفَ الدولةِ يخوضُ حرباً دينّية معَ الرومِ، فَضَلاْ عنْ أنَّ وسائلَ قتالهم، كالنياق، لا تصلحُ للحَرّبِ، وقد انتصرَ سيفُ الدولةِ على قبائل منها، فَسِجُّلهَ الحربيُّ شاهد؛ يثّبطُ هِمَمَ القبائلِ، وَيَرْفَعُ من معنوياتِ سيفِ الدولةِ وجندِه.



ـــــــــــــــــ
* نشر هذا البحث في مجلة المجمع العلمي- بغداد، ج4، مجلد4، 1421هـ- 200م




أمّا المحورُ الثالث: فتوقَّفَ عند تحديات ِالرُّومِ للمسلمين؛ فحربُهم دينية، فابتعثَ المشاعرَ الدينيةَ اسلوباً للجهاد ،وتوقَّف عند مشاعَرَ مروَّعة ،أْْوقَعها سيفُ الدولةِ بِهِم، فَوَزَّعَ الرُّعْبَ على الرومِ في يقظتهم ومناماتِهم؛ فأصابَهم ما يُمْكِنُ أن يُسمّى بـ "عُصاب الحربِ" مقاتلين وعذارى.
وأبرزَ ثلاثةَ مشاهدَ نفسيّة أليمة، لوفد الروم المفاوض، لِيَثُبَّطَ من معنوياتهم قَبْلَ مفاوضاتِ الهدنة المنتظرة، وهذا مما يعُدَ َّمن أدوار الحرب النفسية في أيامنا هذه.

























1-مقدمة:
لاجَرَمَ أنَّ للعاملِ النفسيِ دوراً وظّفهُ المتنبيُّ في رومياتِ سيفِ الدولة، وَقَمْعِهِ القبائلَ العربيةَ التي ثارتْْ عليهِ، فشكّل به محوراً بارزا من الحربِ النفسيةِ التي يُعَرِّفُها أهل ُالاختصاصِ بأنّها "مجموعةُ أعمال، تستهدفُ التأثيرَ على أفراد العدوّ، بما فيهم القادةُ والافرادُ غيرُ السياسيين، وتخلُقُ تصورّاً ما لدى العدو، أو تنفي تصوراتٍ عندهم عن طريق الدعاية، أو عملياتٍ عسكريةٍ استعراضية،والتنسيق بين العمل العسكري والدبلوماسي، لخلق تصوراتٍ معينةٍ، بغيةَ إحداثِ الفوضى والبلبلةِ عند العدو"(1).
لقد حدَّدَ المتنبي ببيتين ثلاثةَ أدوار ٍللعاملِ النفسي، في حربِ سيفِ الدولةِ؛ ضَمَّنَ في البيتين مجموعةَ أعمال، هَدفُها أوّلا تكبيرُ صورةِ سيفِ الدولةِ باعتباره غازيا الروم طول حياته، وثانباً: حَدَّدَ مَهَمَّتهُ لقتال ِالرُّوم، فتساءل عن موعِد عودته إلى البلاد من جبهته الخارجية في الروم، كما حدّد ثالثا روماً خَلْفَ ظَهْرِهِ يُمَثّلونَ عَرَبا ثائرين عليه على الجبهة الداخلية فيقول(2):
أَنْتِ طُوْلَ الحيـاةِ للـرُّومِ غازٍ فمتى الوعدُ أنْ يكونَ القفول؟
وَسوِى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُوْمٌ فعلـى أُيِّ جانبيـكَ تَمِيـلُ؟

وعليه فانقسمت الدراسة ثلاثةَ محاورَ، توزّعتْها أدوارُ العامل ِالنفسي على النحو الآتي:-
1-العامل النفسيُّ وتكبيرُ صورةِ سيفِ الدولة وترصدُّه لسماتٍ مميزَّة فيه.
2-العامل النفسيُ ودورهُ في تخذيلِ القبائلِ العربية وتسفِيهه آراءَ قادتِها، ووسائلَ قتالِها .
3-العاملُ النفسيُّ ودورُه في تأجيجِ مشاعر المسلمينِ، لحربٍ دينيّة، بين المسلمين والروّم.
أولاً-العامل النفسيُّ وتكبيرُ صورتهِ بالدّعاية وترصدُ سماتِه:
لقد وظَّف المتنبي العامل النفسي بأدوار عِدَّةٍ منها، تميُّزهُ عن غيره بسمات قياديّة خاصةً وعليه، فَأَعدَّتْهُ الخلافةُ العباسيةُ لمواجهة الأعداء(3).
لأمـْرٍ أعَدَّتْهُ الخِلافـةُ للعـِدا وَسَمَّتْهُ دُوْنَ العالمِ الصَّارِمَ العَضْبا

ومن العواملِ النفسيةِ تَوقُّفُهُ عند اسم سيف الدولة "علي" و"لقبه"، فَعَدَّ تلقيبَ الخليفةِ له "سيفَ الدولة" على أهميته- ظُلْما له، بخِلاف اسمه الحقيقي "علي" الذي يستأهِلُه بِحَقّ؛ ذلك لأِنَّ للسيفِ حَدّا يَنْقَطِعُ بالضَّرْبِ حينا، في حينَ أَنَّ كَرَمَهُ لا ينبو، أمّا اسمه "علي" فاسم "على مُسمّى، وهو إنصاف لِحَقَه، متّبعا أسلوبَ المناطقِة في المقارنِة والتمنطق(4).
وإنّ الذي سمَّىً عَلِياً لَمُنْصِفٌ وإنّ الذي سمّـاهُ سَيْفـاً لَظَـالِمُـهْ
وَمَا كُلُّ سَيفٍ يَقْطَعُ الهامَ حَدُّهُ وَتَقْطـَعُ لـَزْبـاتِ الزَّمانِ مَكارِمُهْ

ومن العواملِ النفسيّة تكبيرُ صورتِه، وهو بسيفهِ المسلول؛ ذلكَ أَنَّ عَاتِقَهُ عليه، أما قائمةُ فهو بـ "يَدِ" جَبّارِ السّمواتِ على ما لـ "جَبّار" من صورةٍ صوتيّه سمعية، تَئٍطُّ منها صِيْغَةُ مبالغةٍ، مُحَمّلَةٌ على كَفَّ قُدرةٍ إلهية لا تُقهر(5).
على عاتِقِ المَلْكِ الأغرَّ نِجادُهُ وفـي يـدِ جَبَّارِ السَمواتِ قائِمُـهْ

ومن العواملِ النفسَيةِ أنَّ حَرْبَهُ على الرومِ دينيةٌ لإعزازِ الإسلامِ دينِهِ، وليس بغروى؛ ان تكونَ حربُه كذلك؛ ذلك لإنَّ اناشيدَ الرُّومِ على ما يذكُرهُ شلمبرجة الفرنسي كانت "النصرُ للِه الذي هَدَمَ البِلادَ العربيةَ، والنصرُ للهِ الذي شَتَّتَ شَمْلِ من يُنْكِرُ التثليثَ المقدَّسَ، والنصرُ لله الذي جَلَّل بالخيبةِ هذا الاميرَ القاسي (سيف الدولة) عَدُوَّ المسيح، النَّصْرُ للهِ، النّصرُ لله"(6).
ويؤكّدُ الشاعرُ تمَّيزَ حَرْبِ سيفِ الدولةِ في رُومياته، على رغم من انحيازِ عَدَدٍ من المسلمين، مع الروم ضِدَّهُ، إمّا عَجْزا ًأوْ رَهَباً، لِيَظَلَّ سَيْفُ الدّولةِ في جانبِ يُقاتِلُ الِله اعداءه المشركين(7):
أرى المسلمينَ مع المُشْرِكينَ إمَّـا لَعجْـزٍ وإمَّـا رَهَـبْ
وانتَ مَعَ الِله فـي جَانـبٍ قليـلُ الـرُّقادِ، كثيرُ التَّعَبْ

ومن العوامل النفسيةِ التي استوقفتْهُ بعضُ سماتِهِ الحربيّة منِْهاِ؛ سُرْعَةُ حَشْدِهِ، وجاهزيتهِ للقِتال وَرَدَُّ الخُصومِ(8).
وَظنَّهِمِ أنّكَ المِصباحُ في حَلَبٍ إذا قَصَدْتَ سِواها عادَها الظُّلَمُ
فَلَمْ تتِمَّ سَروجُ فَتْحَ ناظرِهـا إلاّ وَجَيْشُكَ فـي جَفنيه مُزْدَحَمُ

ومن العواملِ النفسيةِ التي استوقفتْهُ حُبّةُ التضحيةَ، وافتداؤه نَفْسَه أمامَ جيشهِ، وهي سمةٌ تُسْتَحْسَنُ في تميّز القادة(9):
كُلٌّ يُريـدُ رِجالَـهُ لِحَياتِـهِ يا مـَنْ يُرِيْدُ حياتَهُ لِرِجَالِـهِ

ولمْ يكتفِ بتكبيرِ صورةِ سيفِ الدولة، وتسليطه ِالمركَّزِ، على مزاياه وَْحدَه، بل وظَّفَ العاملَ النفسيَّ، بأدوارٍ عِدَّة على رجالِ سيفِ الدولة، فهم خُبَراءُ حرب، وجراحهم شاهدة(10):
وَكُلُّ فتى لِلْحَرْبِ فَوْقَ جَبِيْنِهِ مِنَ الضّْرْبِ سَطْرٌ بالأسنّة مُعْجَمُ

إنّهُمْ خُبراءُ يجيدونَ تمويهَ أنفسهم، وخيولِهِمْ، فتبدو مُلَثَّمةً بتجافيفها(11):
لها في الوغي ِزيُّ الفوارسِ فَوْقَها فَكـُلُّ حِصـانٍ دارعٌ متلثـِّمُ
انهم فرسان متلثّمون، لئلا تسقط عمائمهم في سوح الوغي(12):
سَأَطْلُبُ حَقّـي بالقَنـا ومشايِـخٍ كأنّهمْ من طُوْلِ ما التَثَموا مُرْدُ
فرسانٌ محترفَون في ضربِ الهاماتِ، خفافٌ على خيولهم(13):
ضَروبٌ لهامِ الضاربي الهام في الوغى خفيف إذا ما اثقل الفَرَسَ اللِّبْدُ

وهم رماةٌ أجيادٌ من على صهواتِ الجياد، يُسدِّدون رماحَهم على أعدائِهم من بين آذان الخيل(14):
وَجُرْداً مَدَدْنـا بَيْنَ آذانِها القَنـا فَبِتْـنَ خفِافـاً يَتَّبعْنَ العواليا

وجُنُودُهُ هؤلاءِ يُمَشِّطُون الأرضَ بسيوفِهم، بحثاً عن حقوقِهم في سُوح العمليات؛ سواءً ارتفعَ آكامُها أم انخفضت غِيطانها(15):
تَرمِي على شَفَراتِ الباتراتِ بِهِمْ مكامنُ الأرضِ والغيطانُ والأَكَمُ
كما يوُظِّفُ الشاعرُ مشاهداتِه الحربيةَ عواملَ نفسّية؛ تشهدُ لسيفِ الدولة قدرَتَهُ على تعبئته صفوف القتال(16):
عَرَفْتكُ والصُّفـوفُ مُعبئّـآتٌ وأَنْـتَ بِغَيْـرِ سَيْفِـكِ لا تَعيِـجُ

كما يشهدُ له بشجاعةٍ متفرَّدةٍ في ساحِ الوغى، عندما ثَبَتَ في الهيجاء وحده، بينما انهزمَ الأبطالُ من حولِه(17):
وما حَمْدتُكَ في هَـْوِلٍ ثَبَتَّ لـه حتـىّ بَلَوْتـُكَ والأبطالُ تَمْتَصِعُ
إنّ العواملَ النفسيةَ أدّتْ دَوْرَها من حيثُ خَلْقُها صورةً مكبّرةً لسيفِ الدولة، ومميِّزةً له، يعزّزها بتجربتِه ومشاهدته مواقفَ التميزّ عِنْده، ومُرَكَزََّةً على سمات جُنِْده، وهو يُنِّسقُ بين صفاتِهم الجسدّية كالخِفَةِ والرّشاقة، والفعلية، كدقِة الرمي، وتمشيطِ الأرض، بِحرفة عسكرية متميّزة أيضاً.
ثانياً: العامل النفسي ودوره في قتال القبائل العربية المتمردة
لقد وظّف المتنبيّ العاملَ النفسيَ، بأدوارٍ متعدّدةٍ في قتالِ سيفِ الدولةِ للقبائلِ العربيةِ الثائرةِ عليه، بشهاداتِ المؤرخين؛ منهم ابنُ الأثيرِ الذي يُدْرِجُ عِصياناتِ أهلِ حَرَانَ على هبِةِ اللهِ بن ناصر الدولة بن حمدان؛ لأِنَّهُ كان مُتَقلِّدا لها، ولغيرها من ديار مضر، مِنْ قِبَلِ عَمّهِ سيفِ الدولة سنة (354هـ).
وعصيانَ نجا خادمِ سيفِ الدولة سنة (353هـ) ومخالفةَ أهلِ أنطاكيةَ على سيفِ الدولة سنة (354هـ)، وغيرُها كثيرة(18).
إنّ مِثْلَ هذه الثوراتِ الداخليةِ من قبائلَ عربية، أَرْهَقَتْ سيفَ الدولةِ بلا شكّ، لاسِيَّما الرومُ، لا ينفكُّون عَنْ شَنّ غاراتِهم على حدودِ الدولةِ العباسيةِ، ممّا جَعَلَ الشاعرَ يَجْأَر بِشِعرِه، ويتشكّى من ثوراتهِم، وَيَعِدُّهُمْ رُوما فعلا، وإن كانوا مسلمين اسما(19):
وسِوى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِك رُوُمٌ فعلـى أيَّ جانبَيِْـكَ تَمِيْـلُ؟!

وعليه فكان عامِلُهُ النفسيُّ يقومُ بأدوارٍ منها:
إضعافُ عزائمِ القبائلِ الثائرة لأنها ضعيفة أمام سيفِ الدولة، وان بَدَتْ في نظرنا قوية، إذ من واجبِ العاملِ النفسيِ الردُّ على دعاوي الخصِم، لاضعافِ حُجّتِهِ، وزعزعِة قناعاتِه بالحرب، التي يَتَوجَّهُ إليها، فها هو يَنْقُضُ مزاعمَ القبائلِ الثائرة، ويعد خروجها عليه إسخاطا لله -عزَّ وجلَّ-، لأنّ حَرْبَ سيفِ الدولةِ حربٌ دينّية على أعداءِ الاسلامِ، فلم هذه الفتن الداخلية اذن(20)؟.
أرى المسلمين مع المشركيـن (م) إمّـا لَعَـجْـزٍ وإمّـا رَهَـبْ
وأَنْتَ مَـعَ اللهِ فـي جانِـبٍ قليـلُ الـرُّقـادِ، كثيرُ التَّعَبْ

إنّ خروجَ القبائل على سيفِ الدولة، كقبيلةِ عقيل، يقودُها الثائرُ إلى الموت؛ فيشمت بها المخلوق، ويغضبُ بخروجها الخالق -عِزَّ وجلَّ-، فبرأي من انقادت إليه ؟ أللموت والهلاك(21)؟!.
برأي من انقادت عُقَيْلٌ إلى الرَّدى وإشْماتِ مخلوقٍ وإسْخاطِ خالقٍ؟

كما يُوظِّفُ العاملَ النفسيّ بدَوْرٍ؛ يزعزع فيه ثقةَ القبائِل من جهة، وبوسائلَ حربه "الناقة" التي لا تصلحُ للحربِ من جهة أخرىِ بأُسلوب ساخر(22).
وجَيْـشَ إمـامٍ علـى نَـاقـةٍ صحيـحِ الإمامـةِ فـي الباطلِ

ويُزْعْزِعُ ثقِتَهم بالنَّصر؛ مستندا إلى سِجلّ سيفِ الدولة الحربي من قبل، الذي انتصر على قبائلَ أقوى من هذه الثائرة(23):
وَسَوْقَ عليّ مـن مَعَدِّ وغيرِها قبـائلَ لا تُعطي القُفِـَيََ لِسائقِ

ثُم يُوَسِّعُ عاملَه النفسيَّ، فيدرجُ خطورةَ الثوراتِ الداخليةِ هذه، على أمن الدولة الإسلامية، لأِنّها تُشْغِلُ سيفَ الدولة عن حربهٍ مع الروم، لردع خطرهم ودرئه، وهو توجّهٌ وطنّي فيما يسمى اليوم، يُغَلِّفُهُ بِحَرب نفسيّةٍ، يثِّبط بها معنوياتِ المقاتلينَ الثائرينَ على سيفِ الدولةِ أولا، ويرفعُ ثانيا من معنوياتِ سيف الدولة وجيشهِ، من خلال عَرْضِهِ مشاهدَ من سِجله الحربيِّ المشرّف، فتنهض صورةٌ خفيَةٌ من بينِ السطور؛ تُشْعِرُ المتلقي أنّ ثورةَ القبائلِ فاشلةٌ، يكادُ يُحْكَمُ عليها قبل بدئها؛ وهي مع ذلك تُشْغِلُ سيفَ الدولةِ عن جهاده الروم(24).
ولأ شغلـوا صُـمَّ القَنا بِقُلوبِهِـمْ عن الرَّكْزِ لَكِنْ عن قُلوبِ الدَّماسقِ

ولماذا لا تَحْذَرُ القبائلُ سيفَ الدولةِ صاحبَ القوة التحويلية، التي يمسخ العدوّ القوي ويبدّلُ قُوَّتّه ضعفا(25)؟.
ألمْ يحذروا مَسْخَ الذي يَمْسَخُ العدا ويجعلُ أيدي الأُسْدِ أيدي الخرانق؟

ولا يكتفي الشاعرُ بالقولِ والتلويحِ بهزيمةِ القبائل، بل يُوظَّفُ عامِلَهُ النفسي؛ شاهدا عليه، نُطِلُّ به معه على مَشهدٍ قتالي، نرى فيه قبائلَ ثائرةً؛ تتساقطُ رؤوسهم، فتتعثّر بها اَرْجُلُهم، في موقف مروّع، نرى في المشهد شاها تتثاغى، وإبلا تتراغى، بعد أن افتقدت اصحابها، تتبقى في جنبات المشهد الدموي هذا صورة ثكلى معواء(26):
مَضَوا متسابقي الأعضاءِ فيه لإِرْءُوسهـِمْ بِأرْجُلِهم عثْار
يُبَكَّي خَلْفَهُـْم دَثْـرٌ بُكـاه رُغـاءٌ أو ثُؤاْجٌ أو يُعـارُ

ثم يُذكَّرُهم بمشهدٍ حزينٍ مؤسٍ؛ ذاك هو مصيرُ السّبايا العربياتِ منهم، وهو الشَّرَفُ التليدُ الذي يصونُه العربُّي مُذكان وحتى الآن؛ يذكّرُهم بِهِنّ، وقد أُردفْنَ سبايا راكباتٍ، بعد أن دِْيسَتْ تحتَ سنابكِ خيل سيف الدولة أطفـالٌ صغـار(27):
وَأُرْهقت العَذارى مُرْدفَاتٍ وَأُوطِئَتِ الأُصَيْبِيَةُ الصَّغارُ

إنَّ الشاعرَ يَتَفنَّنُ في توظيفِ هذا العاملِ النفسي، فيعلمُ أَنَّهُ يثير حفيظة العربيَّ ليِثأرَ، أو على الأقلِ ليَنْقُمَ على من كان سببا فيه، ولكنّه لدرايته بالنفس المتلقية، وَحُسْنِ خبرته بها، يَعْرِضُ مَشْهدا نبيلًا لسيف الدولة، فهو بَدَلاً من قتله الاسرى، وهتكهِ أعراضَ السبايا، يَفُكُّ أسرَهم ويعفو عنهم اولا ويعيدُ ثانيا السبايا العربيّات مُعَزّزاتٍ دون المساس بِهِنّ، ولا ريبَ في أنَّ توظيفَهُ هذا العاملَ النفسي، يستحضرُ موقفا إنسانيا نبيلا لممدوحه، ويستلُّ سخيمةَ نفوسٍ ثائرة، لعلّهِا تغيّرمن رأيها في سيفِ الدولة، وهي بالتالي ترفعُ من شأنِ ممدوحِهِ، ومَّا يدعوها إلى تَدَبُّرِ أمْرها مَلِياًّ قَبْلَ الخروجِ عليه(28).
فَعُدْنَ كما أُخِذْنَ مُكَرَّمـاتٍ عَليِهـنَّ القلائـدُ والمَـلابُ

أَمّا فَكُّ أسراهم فكان للنّسبِ المشتركِ، وحقّ الجِوار، كأنها دعوة إلى توحيد الكلمة ورصَّ الصفوف العربية(29):
لَهُمْ حَقٌّ بِشِرْكِكِ في نِـزارٍ وأدنى الشَّرْكِ في أَصْلٍ جوِارُ

ويوظَّفُ للعاملِ النفسيّ دوراً يَشْحَذُ به هِمَمَ سيفِ الدولةِ، لئلا ينخذلَ عن هدفهِ السامي في قراعِ الرُّومِ، على كَثرةِ ما يرى من تعاونِ المسلمين مع المشركين الروم، فيبُرزه في جَنب الله وحيدا، وغيرَه مشركين يدينون بابـن وأب(30).
كَأَنَّـك وَحْــدَكَ وَحَّـدْتَهُ ودانَ البـرِيـَّةُ بِآبـنٍ وَأَبْ

ثالثا: العامل النفسي ودوره في روميات المتنبي
لقد وظَّفَ العاملَ النفسيَ، بأدوارٍ متعددّة في رومياتِ سيفِ الدولةِ الحمداني منها تَحدّياتُ النصارى للمسلمين(31):
أَبا الغَمَرِاتِ تُوعِدُنـا النُّصـارى ونحنُ نُجـومُها وهي البروجُ
ومنها أنَّهم يحتشدون بِعناصرَ قتالية، من جِنسيات شتى، شأنُهم في يوم الحدث الحمراء، إذ حَشدوا لها روما وروسا وبلغارا في حرب منظّمة لهدم قلعة الحدث(32). فيقول(33):
تَجَمّـَع فيهـا كُـلّ لِسْـنٍ وَأُمّـةٍ فمـا يُفْهِـمُ الحُدَّاثَ إلا التَراجِمُ
وَكْيفَ تُرجّي الروُم والرُّوُس هَدْمَهُ وذا الطعـنُ آساسٌ لها ودَعائِمُ؟!

ومنها إصرارُ بعضِ البطارقةِ على سحقِ سيفِ الدولة، بعد أن اقسموا بمفرق الملك الرومي، ومع ذلك خذله الله عن مراده، فصغّره المتنبي بأيمانه التي خانه تنفيذُها(34):
آلى الفتى ابنُ شُمُشقـيق فَأَحْنَثَـهُ فتـى من الضَّرْبِ تُنْسى عِنْدَهُ الكَلِمُ
أينَ البِطِارِيقُ والحَلْفُ الذي حَلَفوا بِمَفْرَقِ المَلْكِ والزَّعْمُ الذي زعموا؟!

لقد بَرَزَ دورُ العامل النفسي - كما ترى- في تأجيجِ مشاعرِ المسلمينَ على أنَّ الحربَ بين المسلمين والروم حربٌ دينية(35):
وانـت مع اللهِ فـي جانــبٍ قليـلُ الرُّقـادِ، كثيـرُ التَّعَـبْ

فابتعاثهُ الحربَ الدينيةَ تُؤجَّجُ المشاعرَ الاسلامية للجهاد وهو دور نفسي هام(36):
خَضَعَتْ لِمُنْصُلِكَ المَناصِلُ عَنْوَةً وَأَذلَّ ديِنُـكَ سـائـرَ الأديـانِ

كما يوزَّعُ أدوارَ العاملِ النفسي، على حالاتِ جهادِ سيفِ الدولة منتصرا ومنهزما معا.
أَمّا منتصرا، فيبعثُ الرُّعْبَ في قلوبِ الروم قبل التقائهم حينا(37).
بَعثوا الرُّعْبَ في قُلوبِ الاعا(م) ديِّ، فكانَ القتالُ قَبْلَ التلاقي

كما يوزَّعُ حينا آخر الرُّعْبَ على قلوبِ الروم، قبل عيونِهم، فتبدو الصورةُ البصريَّةُ في عيون الروم مُكبَّرَةَ مَرعوبةَ الرؤية، فترى لِفَزَعِها طُولَ أذرعِ القنا على مسافتِها القصيرة أميالاً تنوشهم أنّى كانوا، فبدا الرُّعْبُ ذاك يبيدُ جموعَهم يَمنةً ويَسرةً(38):
وإذا حاولت طِعانـَكَ خَيْـلٌ أَبْصَـرَتْ أَذْرُعَ القنا أميالا
بَسَطَ الرُّعْبَ في اليمينِ يَمينا فتولّى وفي الشَِّمـالِ شِمالا

ولعلَّ هذا توزيعٌ لأِِدوارِ العامل النفسي في ابتعاثِ هيبةِ سيفِ الدولة في نفوسِ الروم؛ لأِنّ شلمبرجة الفرنسي أكّد أنَّ الروم أسموه الكافر الحمداني، وهو "المحارب الأعظمُ السامي الذي اعلن الحربَ المقدَّسة على النصرانيةِ"(39).
لقد وزّع الرعبَ النفسيَّ على الرومِ فأقضَّ مضاجِعَهم في يقظاتهم ومناماتهم، وهذا ما يسمى اليوم بـ" عُصاب الحرب" (40)فاجتاحهم الرُّعب النفسي ليلا ونهارا(41).
وَكَيْفَ يَبِيْتُ مُضْطَجِعاً جبـانٌ فَرَشْتَ لِجَنْـِبِه شَوْكَ القَتادِ؟!
يَرى في النومِ رُمْحَكَ في كُلاهُ ويخشى أن يراهُ وفي السُّهادِ

وعُصابُ الحربِ هذا يتفشّى من الجندي المقاتل إلى عذارى الروم؛ فما تكاد العذراءُ تَحْتَلِم حتى تحلمَ بالسبّي العربي، وإذا هي محمولة على جِمال العـرب سبيَّـةً(42).
فَكُلّمـا حَلَمـَتْ عَـذراءُ عِنْـدَهُمُ فإنّمـا حَلَمَتْ بالسَّبيَّ والجَمَلَ

وإذا كان عُصابُ الحربِ أصابَ العذارى ممن لم يُسْبين بعد، فإنْ مشاهدَ من سبايا الرومِ دليل؛ ذلك أن بعضَ السبايا الروميات احتمين بِجَمالِهِنَّ فَلَمْ تُضْرَبْ أعناقهن لأجله حينا(43).
فَلَـْم يَبْقَ إلا مَنْ حَمـاها مـن الظُّبا لمى شفتيها والثُّدِيُّ النَّواهِدُ

وَمِنْهُنّ كواسدُ عند العرب،مع أنَّهُنَّ عزيزات على الروم؛ ذلك أنَّ البطارقة يبكون عليهن ليلا في تحسُّرٍ حينا آخر:(44).
تُبَكّي عَلِيِهنَّ البطاريقُ فـي الدُّجـى وَهُـنَّ لـدينا مُقْلَياتٌ كَواسِدُ

وعُصابُ الحربِ يمتدُّ إلى الأسرى فيبولُ بعضُهم على فخذيه بعد أن تبلَّلَ ثوبُهْ(45).
فَغـدا أسيـراً قـد بَلَلْـتَ ثِيـابـَهُ بـِدَمٍ وبـَلَّ بِبـَوْلِهِ الأفخـاذا

وليس بضروري أن يمتدَّ عُصابُ الحرب إلى الاسرى ، فبعضهم من تُضْرُبُ رَأْسُهُ على عجل(46).
أَعْجَلْتَ أَلْسُنَهـُمْ بِضـَرْبِ رِقابِهِـمْ عـن قـَوْلِهِمْ لا فارسٌ إلا ذا
ويوزَّعُ الحرب النفسية أدوارا منها؛ً على قتلى الحرب، في سوح القتال، فتسرَّحُ خيالَك مع الشاعر إلى قتلى ملقاة أجسادُهم في صحارى، تأكلها السِّباعُ، فتثني على قاتليهم بصورة تشخيصية متشفيّة، لأِنَّ جُثثَهم وجبات دسمة لها(47).
تَرَكْتَ جَماجِمَهُـم فـي النّقـا ومـا يَتَحصَّلْـنَ للنّاخِـلِ
وأنبـتَّ مِنْهـم ربيـعَ السَّبـاع فأثنتْ بإحسانـِك الشَّامـلِ

والعاملُ النفسيُّ يشملُ قتلى المسلمينَ في حَربِ الروم، ممن خالفوا سيفَ الدولة، فَعَدَّ قَتْلَهُمْ عقوبةً لهم، وتصفيةً لأِدران الجيش الإسلامي(48).
قَلْ للدُّمُستْقِ إنَّ المسلميـنَ لَكُـم خانوا الاميـرَ فجازاهم بما صنعوا
وَجَدْتُموهُمْ نيامـا فـي دِمائِكُـمُ كأنّ قَتْـلاكُـمُ إيـاهـم فَجَعُــوا
لا تحسبوا مَنْ أسَرْتُمْ كان ذا رَمَقٍ فليـس يأكُـلُ إلا الميِّتَ الضَّبُـعُ
وإنما عـَرْضَ اللهُ الجنـودَ بِكُـمْ لـكي يكونوا بلا فَسـْلٍ إذا رَجَعوا

وقتلى الرومِ جُثَثٌ ملقاةٌ في الفلا هنا وهناك، ويحَّدقُ بها وفدُ الروم، المفاوضُ سيفِ الدولة، فتنكشَّفُ أمامَه صورٌ نفسية حركية تَقْشَعِرُّ لهولها الابدان، لما يرون من هَامٍ مُفلّق في ميدان الحرب(49).
وقد سارَ في مَسْراك مِنْهُ رسولُـه فمـا سـار إلاّ فـَوْقَ هامٍ مُفَلَّقِ

ويوزَّعُ المتنبي العاملَ النفسيَ على وفدِ الرومِ المفاوضِ للهدنة سنة 344هجرية(50).
فأبرزَ الشاعرُ رسولَ ملكِ الرومِ لابساً دِرْعَه، يخفقُ قلبُهُ هلعا، وهو يمشي بين صفّين متقابلين، من جند سيف الدولة، ممن اصطفوا لاستقباله، وكان سيفُ الدولةِ يقفُ على بِساط الملكِ الرومي، وعليه تاجُه، فَقَسَّمَ الوفدُ نَظْرَتَهُ بين سيف الدولة حينا وسيفهِ حينا آخر كما يرسمُهُ هذا المشهدُ(51).
أتاك يكادُ الرأسُ يَجْحَدُ عُنْقَـُه وَتَنَقدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْـهُ المَفاصِلُ
يُقَوَّمُ تقويمُ السَّماطيـْنِ مَشْـَيهُ إليـكَ إذا مـا عَوَّجَتـْهُ الأفاكل
فَقاسَمَكَ العينينِ مِنْهُ وَلَحْظُـةُ سَمِيـُّكَ، والخِـلُّ الذي لا يُزايِلُ

وتبدو من النَّصَّ أنها المرحلةُ الثالثةُ للمقابلةِ، إذ مرَّ بِمَشهدينِ نفسيّين قبلها؛ أولُهما مُرورُ الوفدِ الرومي على ساحِ المعركة، ليَشْهَدَ بنفسهِ الهاماتِ المفلّقة، وثانيها يشهدُ الوفد لبوءَةً قَتَلَها رجِالُ سيفِ الدولة، لما لذلك من رمزٍ دالًّ على القوة والسطوة، حتى على ملوكِ الغاب، فتزدادُ هيبةُ سيف الدوله في نفوس وفد الروم (52):
وَأَقْبَلَتِ الرُّومُ تمشي اليـكَ (م) بَيْـنَ الليـوثِ وأشبـالِهـا
إذا رَأَتِ الأسْــدَ مَسبيـَّةً فكيـف تَفِـرُّ بأطفـالِهـا؟!

ويستمرُّ في عرضِ مَشْهدِه النفسي، فَيُبرِزُ حَرَسَ المراسم في كامل تسلّحه، تلمع في أشعةِ الشمس سيوفُه بين صَفَيّ مراسم، فيرتبكُ وَفْدُ الروم، لما يراه من رَهَبوت؛ مَقْدَما وعَرْضا عسكريا وتهيّباً عند مقابلةِ سيف الدولة(53).
وأَقَبْلَ يَمشي في البِساطِ فما درى إلى البَحْرِ يمشي أم إلى البدرِ يرتقي؟

إنّ تذكيرّه بهذا الموقف، كان ليرفعَ من معنويات سيفِ الدولة وجنودِه، فالحربُ كَرٌّ وفرٌّ، فلابدَّ أن يَنْفُخَ فيه روحَ الجِهاد، ليثأرَ من الرومِ. بعد أن بلَغَهُ خبرٌ عن حشد الروم أربعين ألفا، بعد ثلاث سنوات من هزيمتهِ، فتهيَّبهم جيشُه، فَطَلَب سيفُ الدولةِ من شاعرِه المتنبي، أن يذكيَ فيهم روحَ الجهاد فلبّى أوامره، فنفخ فيهم روح الحمية بصور شتى، وهذا دورُ العامل النفسي في الحرب. لقد تحشّد سيُف الدولةِ بُِعدّته الكاملِة وأعدّ للحرب عُدَّتها(54):
وَخَيْلٍ حَشوناها الآسنّةَ بعدمـا تَكَدَّسْـنَ مـن هَنـّا وَمِنْ هَنّا

ومنها أنَّ الحرب كرٌّ وفرٌّ، والروم يدركون ذلك تماما، والمسلمون هم أصحاب روح قتالية عالية(55).
وقد عَلِمَ الرُّومُ الشقيُّون أَننّـا إذا ما تَرَكْنا أرضَهم خَلْفَنا عُدْنا

ومنها "أننّا" بضمير الجمع المتكلم نرتدي للحربِ عُدَّتها، ونتهيأ لها سيوفا ورماحا، ويضفي على حَربِه النفسية اشتراكَه الشخصي، معهم في المعركة التي تهيأ لها(56).
وإنّا إذا ما الموتُ صَرَّح في الوغى لَبسْنِا إلى حاجاتِنا الضَّرْبَ والطَّعْنا

ومنها غوصُه في أعماقِ النفّسِ الانسانيةِ، لانها صاحبةُ القرارِ في تصورِ الخوفِ أو عَدَمِه؛ فهي تخافُ إذا ما تخيّلت الخوفَ، أو يُرْبَطُ جأشُها، فترى في الحرب أمنا(57).
وما الخَوْفُ إلاّ مـا تَخَوَّفَـه الفتى وَمَا الأمنُ إلاّ ما رآه الفتى أَمنْا

ثُمّ ينقلُ إلى المتلقين بعاملٍ نفسي مشهداً حربيا، كان من سِجلّهم السابق مع الروم، إذْ أحرزوا نصراً، وأهرقوا فيه دمَ الروم التي بَرَدَتْ مُنَذُ يومِ اللَّقان، وهاهم يتابعون القتال، يوظِّفُ التضادَ، وبفعل متعد (تتبع البارد السخن). من جهة، وفعلاً مضارعاً مستمراً متعدياً، يحمل معه حربا نفسية مصمّمةً على القتال مستنهضا هِمَم الجندية(58).
فَقَدْ بَرَدَتْ فوقَ اللُّقان دماؤهم ونحنُ أناسٌ تُتْبِعُ البارِدَ السُّخنا

وتستوقفه الجرحى عاملا نفسيا يوزعِّهُ على المسلمين والرومِ، يقارنُ بين حالاتِهم، أمّا الجريحُ المسلم فيزدان به وجههُ إشراقاً لأِنهُ ناله بشرفٍ في ساحِ المعركة، كجُرح محمد العلوي الذي تمنى الشاعر أن يمنى بمثله(59).
يا ليتَ بـي ضَرْبَةً أُتيحَ لها كمـا أتيحـتْ لَـهُ مُحَمَّدُهـا
أثَّرَ فيها وفي الحديدِ ومـا أثـََّر فـي وَجِهْـهِ مُهَنـَّدُهـا
فاغْتَبَطِـتْْ إذ رأتْ تَزَيُّنَها بـمِثْلِـه والجـراحُ تَحْسُدُهـا

والجراحُ تعادلُ خبراتِ الجند في سُوح الوغى فتزداد الثقة به(60).
وَكُلُّ فتى للحربِ فَوْقَ جَبِيِنِه من الضَّرْبِ سطر بالأسنََّةِ مُعْجَمُ

أمّا جراحُ الرومِ فعارٌ عليهم؛ لأِنّهم جُرحوا مدبرين، لا مقبلين، كالدمستق الذي ولّى على عقبيه تاركا وَلَدَهُ في شفار الموت(61):
نَجَوْتَ بإحدى مُهجتيك جَرِيْحَةً وخَلَّفْتَ إحدى مُهجتيك تَسِيلُ

ثمُ يقارِنُ- من منظور نفسي- بين جريحٍ مُسلم، يرجع للقتال، بخبرة حَرْب مُعتّزا بها، ودمستقَ روميٍ جريحٍ، يَعْتَزِلُ السّلاحَ ويترهبنُ، مُنْحَطِمَ المعنويِة يتزيّا بالمُسوح لباسا، ثم يَقْبُعُ في ديرٍ منكفِئا على نَفْسِه، يمشي به العكَازُ لا العكس، خائرَ القوى، راضيا بحالتهِ هذه، بعد أنْ كانَ يتعفَّفُ على أحسنِ الدروع الدلاص، والشُّقر الجياد(62):
فأصبحَ يجتابُ المُسُوْحَ مَخَافـةً وقد كان يَجْتابُ الدِّلاصَ المسرَّدا
ويمشي به العُكّازُ في الدَّيْرِ تائِبا وما كان يرضى مَشْيَ أشْقَرَ أجْرَدا
وما تابَ حتّى غَادَرَ الكَرُّ وَجْهَهّ جَريحاً وخلَّى جَفْنَهُ النَّقـعُ أَرْمـَدا

ونخلص إلى أنَّ العاملَ النفسّي، كان له ادوارٌ عدة عند المتنبي وزّعها على ثلاثةِ محاورَ هي: الدعايةُ لسيف الدولة وتكبيرُ صورته، وترصُّده لسمات مميّزة، انمازَ بها عن غيرِه حربيا ونفسيا، لرفع معنويتهِ في سرائِه وضرائه وترهيبِ خصومه.
والعاملُ النفسي كان له دوُره في قتالِ القبائلِ العربية، واضعافِ عزائمِهم عن القتال، والدعوةِ إلى ضَمّ الصفوفِ، ومحاولتهِ استلالَ السخيمةَ من النفوس.
والعاملُ النفسي ودورُه في رومياتِ المتنبي: منتصرا ومنهزما، ليرفع من معنوياتِهِ في الانتصار، للاستمرار في الجهاد، وتبريرِ انهزامه، فالحربُ كَرٌ وفرّ، لاسيما أنَّ سيفَ الدولة كان يطلبُ من شاعره احيانا أن ينفخَ في الجيش روحَ الجهاد، كُلّما شعرَ أنها فَتَرَتْ أو تراخت، في فترات عصيبةٍ خاصة، عندما يحتشدُ الروم من أجناس شتّى ضِدَّ سيفِ الدولة، الذي كان يقف في وجوهِهم وحيدا على قِلّةِ جنده، وتفرَّق بعضِها وثوراتِهم عليه، في فتنٍ داخلية، كانت تَعْصِفُ بدولته؛ كلما شعروا بِضَعْفٍ، حلَّ فيهم جسديا أو نفسياً، أو تهديدا طاغيا روميا أو لطمع في التسيّد والاستقلال.
ولعلّ هذه الادوارَ التي درسناها تَنْسَحِبُ كُلُّها أو مُعْظَمُها على ما يعرفه أهلُ الاختصاص بمصطلح الحرب النفسية في عصرنا الحاضر

المصادر المراجع
1- ابن الاثير: عزُّ الدين أبو الحسن علي بن المكارم محمد محمد عبد الكريم الشيباني: الكامل في التاريخ، مراجعة د.محمد يوسف الدقاق، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2، 1990، ج7.
2- الحموي، ياقوت:معجم البلدان، بيروت: دار صادر، 1995، (7) سبعة أجزاء.
3- شرح ديوان أبي الطِّيب المتنبي، وضعه عبد الرحمن البرقوقي، بيروت: دار الكتاب العربي، (4) أربعة اجزاء بمجلدين.
4- العسلي، بسام: فَنُّ الحرب الإسلامي في العصر العباسي، ط1، بيروت: دار الفكر،1988.
5- فوللر، ج.ف.س: إدارةُ الحرب من عام 1789 حتى ايامنا هذه، تعريب وتعليق اكرم ديري، ط2، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981.
6- كحّالة، عمر رضا: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1994، ط7، (5) خمسة أجزاء.
7- المحاسني، زكي: شعر الحرب في أدب العرب في العصرين الاموي والعباسي إلى عهد سيف الدولة الحمداني، ط2، القاهرة: دار المعارف. (د.ت).
8- مؤنس، حسين: أطلس تاريخ الاسلام، القاهرة، مؤسسة دار الزهراء، 1981.
9- هيثم الايوبي وزملاؤه: الموسوعة العسكرية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، (3) ثلاثة اجزاء.
الدوريات
حسن الربابعة: بحث عنوانه " الشؤون الإدارة في الحرب عند المتنبي" نشر في مجلة جامعة جرش للبحوث والدراسات المجلد2، عدد1، كانون أول 1997، ص133-172.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.