الثلاثاء، 30 يناير 2018

الرئيسية بحث كامل عن قصة الدولة الأيوبية

بحث كامل عن قصة الدولة الأيوبية


شكَّلت الدولة الأيوبية مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي، واضطلعت بمهام عظيمة وجسيمة في حياة الأمة؛ وكان أمراؤها على قدر المسئولية حينًا، وعلى غير ذلك أحيانًا أخرى.

 العالم الإسلامي يعاني اضطرابًا داخليًّا

تبدأ قصة الأيوبيين من خلال الدولة الزنكية التي نشئوا من خلالها، وعاشوا في خدمتها يخدمون الإسلام حينًا، حتى قادتهم الأقدار إلى تولِّي قيادة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين.
 لقد شكلت أحداث التاريخ الزنكي دولة إسلامية في مرحلة من أشد مراحل التاريخ الإسلامي حرجًا, إذ تعرض فيها العالم الإسلامي في الشرق الأدنى لهجوم أوروبي غربي عُرِفَ باسم الحروب الصليبية، في الوقت الذي كان فيه المسلمون يمرون بحالٍ من التفكك, وأصبح من الواضح أنهم كانوا في أَمَسِّ الحاجة إلى رجل قوي ينقذهم من حال الفرقة والانقسام, ويوحدهم تحت رايته, ويجمع طاقاتهم قبل أن ينطلق بهم في خُطًا ثابتة نحو الجهاد.
وقد اتصفت الحياة السياسية في الشرق الإسلامي قبل مجيء الصليبيين باضطراب داخلي، شمل كافة الدولة والإمارات الإسلامية؛ ففي الشرق خضعت الخلافة العباسية لسيطرة السلاجقة الذين تدهور نفوذهم بعد ذلك وتفككت دولتهم, ودَبَّ النزاع بين أمرائهم حول الاستئثار بالنفوذ والسلطان.
 وكانت الدولة العُبَيْدِيّة (الفاطمية) في مصر تمر بمراحل شيخوختها؛ فينازع أمراؤُها خلفاءَها, وتجاذبت القوتان السلجوقية والفاطمية بلاد الشام دون أن تتمكن أي منها من تثبيت نفوذها، وسيطرتها عليها بصورة دائمة أو فعالة[1].
 نتج عن هذا الوضع المضطرب مناخ مناسب للأمراء المحليين في إقليم الجزيرة وبلاد الشام, فاستقل كُلٌّ بما تحت يده يعالج مشكلاته وشئونه الخاصة, وخضع للجانب الذي ارتبطت به مصلحته, وراح يعمل على توسيع أملاكه - إلى ما وراء حدود إمارته - على حساب جيرانه الأمراء الآخرين في ظل ضعف الرابطة السياسية بين هذه الكيانات؛ فتوزعت السلطة نتيجة ذلك بين عدد من الأمراء الطامحين, وتركزت إماراتهم في الموصل, وأنطاكية, والرُّها, وحلب ودمشق, وبيت المقدس وغيرها، فأضحى لكل واحدة من هذه الوحدات السياسية – الاجتماعية, كيانها الخاص وذاتيتها المتميزة إلى حد كبير.
 وصل الصليبيون في ظل هذه الظروف القلقة إلى العالم الإسلامي, واندلعت نيران الحروب الصليبية في الجزيرة وبلاد الشام, ونجحوا في تأسيس أربع إمارات لاتينية في قلب العالم الإسلامي هي: الرُّها, وأنطاكية, وبيت المقدس, وطرابلس, مستغلين تدهور نفوذ السلاجقة, وعجز الخلافة العباسية, والدولة الفاطمية, وتَشَتُّت الإمارات الإسلامية.

عماد الدين زنكي.. القائد الصلب

لم يدرك الأمراء المسلمون الذين أصابهم الذهول, لأول وهلة, عِظَم هذه النكبة التي حَلَّتْ بهم, وتحرك العامة في الجزيرة وبلاد الشام, وفي غيرها من البلاد الإسلامية للبحث عن قيادة قوية ومخلصة توحد صفوفهم, وتقودهم إلى الجهاد لدفع الخطر الصليبي.
 وتهيأت الظروف لظهور هذه القيادة انطلاقًا من إمارة الموصل؛ وذلك بفعل موقعها الجغرافي المجاور لإمارة الرها الصليبية؛ فكان عماد الدين زنكي القائد الصلب الذي أدرك ما آلت إليه أوضاع العالم الإسلامي في الشرق من تشتت وتدهور, فأخذ على عاتقه القيام بهذه المهمة، فأسس دولة له في الموصل وحلب, ثم رفع راية الجهاد ضد الصليبيين لكنه اصطدم بحالة التمزق السياسي التي كانت سائدة في المنطقة؛ فرأى ضرورة تجميع القوى الإسلامية، وحشد طاقاتها قبل القيام بأية خطوة إيجابية لمواجهة العدوان الصليبي، فنهض يعمل على ضم هذه القوى المشتتة.
وبعد أن خطا خطوات واسعة في هذا السبيل ونجح في ضم شمالي بلاد الشام إلى إمارة الموصل نهض ليتصدى للصليبيين, ونجح في تحقيق أهم إنجازاته التي بدأ بها صفحة جديدة في ميزان القوى بين المسلمين والصليبيين في المنطقة, وهي استعادته إمارة الرها من أيديهم. وكان لهذا النصر أهميته حيث أثبت قدرة المسلمين على مجابهة الخطر الصليبي، بالإضافة إلى أنه أَمَّنَ حرية الاتصال بين الموصل وحلب.

نور الدين محمود.. على خطا أبيه يسير

وتُوُفِّيَ عماد الدين زنكي في عام (541 هـ= 1146 م) وهو مرابط أمام قلعة (جعبر). ولا شك بأن هذا الرجل قد مَهَّدَ الطريق لمن أتى بعده للسير على نهجه وتتبع خطاه. وبعد وفاته انقسمت الدولة الزنكية إلى قسمين؛ شَكَّلَ كل قسم منهما دولة منفصلة عن الأخرى في الموصل وبلاد الشام.
 ثم برز نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي كشخصية فذة؛ بدأ من حيث انتهى والده, وبذل جهدًا مضنيًا في سبيل إثارة الأمة, وبَعْثِ رُوحِ الجهاد والتضحية بين جميع أفرادها في مناطق الشرق الإسلامي, وقد ورث القسم الغربي من الدولة الزنكية مع المشكلتين الكبيرتين اللتين واجهتهما, والمتمثلتين في أتابكة دمشق الذين وقفوا حجر عثرة في وجه عماد الدين زنكي لتحقيق وحدة المسلمين في بلاد الشام, بالإضافة إلى الإمارات الصليبية المنتشرة في هذه البلاد.
وبعد أن نجح نور الدين محمود في توحيد قسمي بلاد الشام الإسلامية: الشمالي المتمثل بحلب, والجنوبي المتمثل بدمشق وسط هيمنة فعلية على الموصل, انطلق يجاهد الصليبيين، ويتصدى لتوسعاتهم على حساب المسلمين, ولعل أهم إنجازاته - إلى جانب تحقيق الوحدة الإسلامية, وجهاد الصليبيين - إسقاط الخلافة الفاطمية في مصر, وإعادة هذا البلد إلى حظيرة الخلافة العباسية والمذهب السني.
وقد خلف نور الدين محمود بعد وفاته في عام (569 هـ= 1174 م) ابنه الملك الصالح إسماعيل الذي لم يكن على مستوى الأحداث بفعل صغر سنه, وافتقاره إلى الخبرة والتجربة.
وبرز من جهة أخرى صلاح الدين الأيوبي كَوَارِثٍ طبيعيٍّ، استطاع أن يملأ الفراغ القيادي الذي ظهر بعد وفاة نور الدين محمود, وبوفاة الملك الصالح إسماعيل عام (577 هـ= 1181 م) زال هذا القسم من الدولة الزنكية, ودخل في حُكْمِ صلاح الدين بعد صراع دامٍ مع دولة الموصل.

أصل الأيوبيين

أمّا عن أصول صلاح الدين الأيوبي، فإنَّ الأيوبيين ينتسبون إلى أيوب بن شادي من بلدة (دوين)[1] الواقعة عند آخر حدود أذربيجان بالقرب من تفليس في أرمينية, وجميع أهل ذلك البلد من الأكراد. غير أن بعض الأيوبيين حاول أن يبتعد عن الأصل الكردي, وأن يلتصق بالدم العربي بعامة, وبنسل بني أمية بخاصة, وأنكروا نسبتهم إلى الأكراد, وقالوا: "إنما نحن عرب؛ نزلنا عند الأكراد, وتزوجنا منهم"[2].
لكن صلاح الدين أنكر هذا النسب العربي, وقال: "ليس لهذا الأصل أصلٌ"[3]ادعاء.. ولم يكن العادل الأيوبي أقل إنكارًا من أخيه صلاح الدين لهذا ال
ثم انتقلت الأسرة من (دوين) في بداية القرن السادس الهجري= الثاني عشر الميلادي, حين غادر شادي مع ابنيه: نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه المنطقة إلى تكريت؛ حيث عينه شحنتها مجاهد الدين بَهْرُوز حاكمًا عليها؛ نظرًا لصلات الصداقة التي تربطهما, ولمَّا تُوُفِّيَ خلفه ابنه نجم الدين أيوب[4].

أسد الدين شيركوه

لكن أوضاع الأسرة اضطربت بعد ذلك بسبب مساعدة نجم الدين أيوب لعماد الدين زنكي بعد هزيمته عام (526 هـ= 1131 م) أمام قوات الخليفة المسترشد بالله (512- 529 هـ = 1118- 1135 م), وترتب على هذه المساعدة آثار بالغة الأهمية على مستقبل الأسرة؛ لأنها أغضبت بَهْرُوزَ الذي عَدَّ مساعدة أيوب لزنكي خروجًا على السلطة.
وحدثت في الوقت نفسه حادثة أدت إلى زيادة مخاوف بهروز وقلقه من تعاظم نفوذ الأسرة؛ ذلك أن أسد الدين شيركوه قتل أحد مماليك بهروز دون مبرر مقنع، فأخرجهما هذا الأخير من قلعة تكريت, فتوجها إلى بلاد عماد الدين زنكي, وانخرطا منذ ذلك الوقت في سلك جنده, وبعد أن قُتِلَ عماد الدين زنكي في عام (541 هـ= 1146م) اجتمع الأخوان في خدمة نور الدين محمود وارتفع شأنهما عنده, واختار نور الدين محمود أسد الدين شيركوه؛ ليقود قواته إلى مصر للاستيلاء عليها وضمها إلى بلاد الشام, وقد صحبه ابن أخيه صلاح الدين في جميع حملاته[5].
وعندما نجح في مهمته, تولى منصب الوزارة في مصر في ظل الحكم الفاطمي المتداعي, وعندما توفي في (22 من جُمَادَى الآخرة عام 564 هـ= 23 من آذار عام 1169م) خلفه ابن أخيه صلاح الدين في المنصب[6].
 أيقظت خلافة أسد الدين شيركوه في منصبه الكثير من الطموحات بين الفرقاء؛ إذ حدثت إثر وفاته خلافات وتنافسات على منصب الوزارة بين عدة فئات منها:

صلاح الدين يتولى وزارة مصر

المؤسسة العسكرية الفاطمية, وبعض أمراء نور الدين محمود الأتراك الذين رافقوا الحملة، بينما ظل صلاح الدين في الظل صامتًا, ولكن الفقيه عيسى الهكاري سانده مُقتَرِحًا ترشيحه لهذا المنصب؛ فقرر الخليفة (العاضد) اختيار صلاح الدين لاعتلاء منصب الوزارة خَلَفًا لعمه؛ لاعتقاده أن صِغَر سنِّه وافتقاره للتجربة سوف يرغمانه على الاعتماد على موظفي الدولة الفاطمية, وتجعله أداة سهلة في يد الخليفة، يستغلها في القضاء على بقية أعوان أسد الدين شيركوه, وكان عمر صلاح الدين آنذاك اثنتين وثلاثين سنة, ولقَّبَه بالملك الناصر وذلك في (25 من جمادى الآخرة عام 564 هـ=26 من آذار عام 1169م)[7]آلت الوزارة إليه؛ لأنه أصبح وزيرًا للخليفة الفاطمي الشيعي, ونائبًا عن نور الدين محمود صاحب دمشق السُّنِّي في ذات الوقت؛ فاضطر إلى الدعاء لهما معًا في الخطبة, ثم أخذ يقوي مركزه في مصر, ويعمل على اكتساب محبة أهلها؛ ليشتدَّ بهم أزرُه ويستقلَّ بهذه البلاد.. وقد رأى صلاح الدين أن مركزه قد أصبح شديد الحرج بعد أن

 بعد أن تولى صلاح الدين منصب الوزارة في مصر استطاع أن يُحكِمَ قبضته على مُقدَّرَات الدولة, وقد أدى ذلك إلى تهميش دور الخليفة؛ مما أثار حفيظة عدد من صنائع العبيديين الذين قاموا بالعديد من الثورات والمؤامرات؛ لأجل إعادة الحكم لسادتهم، وقد استعانوا في مؤامراتهم تلك بالصليبيين أعداء الأمة، وكذلك بفرقة الإسماعيلية الباطنية الشيعية المعروفة بالحشيشية، ولكنَّ الله U مكَّن صلاح الدين من القضاء على تلك المؤامرات[8].

 تراوحت العلاقة الأيوبية مع الخلافة العباسية في عهد صلاح الدين بين الحِيدَة والفتور, فقد عاش صلاح الدين في كَنَفِ الزنكيين الذين ربطتهم بالخلافة العباسية علاقات جيدة بشكل عام؛ فكان نور الدين محمود يحترم الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله تدينًا بناءً على عقيدته السُّنِّيَّة, وحرص على كسب رضاه, وكذلك بادله الخليفة هذا الاحترام, فكان يحث أمراء الأطراف على مساندته في حربه ضد الصليبيين, كما أرسل إليه الخلع والتشريفات.
فكان طبيعيًّا أن ينهج صلاح الدين نهج نور الدين محمود, وأن يستفيد من سياسته تجاه الخلافة العباسية, فابتدأت علاقته الجيدة منذ عام (567 هـ= 1171م). وفي الوقت الذي كان فيه وزيرًا للخليفة الفاطمي (العاضد), فقد طلب منه الخليفة العباسي آنذاك أن يقطع الخطبة للفاطميين, ويدعو للعباسيين على منابر مصر، ففعل ذلك احترامًا منه لمقام الخلافة التي يدين لها بالطاعة والولاء.

 وبعد وفاة نور الدين محمود, اضطربت الأوضاع في بلاد الشام بفعل الخلافات بين الأمراء؛ فاستغل الصليبيون ذلك, وهاجموا الأراضي الإسلامية؛ مما استدعى تدخل صلاح الدين, وحتى يعطي تدخله مبررًا شرعيًّا, ويحافظ على ما سوف يحققه من إنجازات, كتب إلى الخليفة العباسي, يصور له أوضاع بلاد الشام السياسية المضطربة, وتَوَثُّبَ الصليبيين عندما هاجموا الإسكندرية, وأوضح له سبب ضم اليمن, بأنه لضرب المهدي المبتدع, وأعقب كل ذلك برجائه من الخليفة أن يُنْعِمَ عليه بتقليد جامع لمصر والمغرب واليمن والشام, وكل ما تشتمل عليه ولاية نور الدين محمود, وكل ما يفتحه اللهُ للدولة على يديه؛ فاستجاب الخليفة لمطالبه.
وعلى الرغم مما توافر له من القوة التي فاقت قوة نور الدين محمود، كان صلاح الدين بحاجة إلى مساندة الخلافة في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين, وبخاصة الزنكيين؛ لذلك كان يُطْلِعَ الخلافة على تحركاته ومنجزاته ليكسب تأييدها, وحتى لا يُتَّهَم بأنه يقاتل من أجل مطامع شخصية؛ فيخسر مساندة الخلافة له, ولكي لا يُتَّهَمَ بقتال المسلمين, وترك قتال الصليبيين.
ولكن في عهد الخليفة أبي العباس أحمد بن المستضيء شعر هذا بالقلق من تحركات صلاح الدين، وخشي أن يمتد نفوذه حتى عاصمة الخلافة؛ لذا اكتفى بتأييده ظاهريًّا، وبمساعدات قليلة حتى لا يزيده قوة[9].

عندما استقر صلاح الدين في منصب الوزارة في مصر أعد نفسه لإحداث تغيير جذري وشامل داخل مصر في كافة المجالات, وكانت مهمته هي التصدي للمشكلات التي أثارها مركزه، فرغم أن التناقض الظاهر من وجود وزير سني لدى خليفة فاطمي لم يكن بالوضع الجديد؛ لأنه طيلة قرن تقريبًا كان هناك وزراء سنيون على مراحل متقطعة في مصر, لكن حركة الجهاد الإسلامي التي قادها نور الدين محمود تحت راية دولة الخلافة العباسية, بالإضافة إلى قيام وحدة فَعَّالة بين بلاد الشام ومصر تقف في وجه الصليبيين، حَتَّمت على نور الدين محمود وبالتالي صلاح الدين الالتزام بإعادة مصر إلى حظيرة الولاء للعباسيين, ولكن الضرورة دعته إلى تمهيد السبيل أمام التغيير رغم إلحاح نور الدين محمود وعتاب الخليفة العباسي؛ لأنه أدرك أن التغيير السريع لا بد أن يولد ردَّ فعلٍ فوري معاكس لا يمكن تدارك نتائجه[10].
وضَمِنَت الخطوات التمهيدية العسكرية والاقتصادية والدينية التي نفذها إحكام قبضته على البلاد. ومع نهاية عام 566 هـ= 1171م وضحت أهداف صلاح الدين بحكم عقيدته السنية في إسقاط الدولة الفاطمية في مصر, وإقامة الخطبة للعباسيين.

أهداف صلاح الدين الإصلاحية

لم تكد تمضي أيامٌ على قطع الخطبة للفاطميين حتى توفي العاضد آخر الحكام الفاطميين, ليلة (العاشر من المحرم = 13 من أيلول)؛ فأمر صلاح الدين بإرسال الكتب إلى البلاد بوفاته, وإقامة الخطبة رسميًّا للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله, وبذلك يكون صلاح الدين قد وضع نهاية للدولة الفاطمية في مصر، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخها عادت فيها هذه البلاد إلى العالم الإسلامي السُّني؛ لتؤدي تحت قيادة الأيوبيين دورًا مهمًّا في توحيد الجبهة الإسلامية ومواجهة الصليبيين، كما قام صلاح الدين بجهود كبيرة في إصلاح الأحوال الاجتماعية في مصر؛ فاهتم ببناء المنشآت كالمستشفيات، وإصلاح المرافق والطرق، والإنفاق على المرضى والمحتاجين، كما عمل على توفير الحماية لمصر من خلال بناء قلعة صلاح الدين، لصد الهجمات الآتية من قِبَل الصحراء.
ورغم ذلك رأى صلاح الدين أنه بحاجة إلى عمل خارجي لتحقيق ثلاثة أهداف:
الأول: توسيع رقعة الدولة الإسلامية.
الثاني: تحصين إنجازاته التي حققها في مصر.
الثالث: تأمين حدود بلاده حتى لا يؤخذ على غِرَّة.
وأسفرت جهوده عن ضم المغرب الأدنى وبلاد النوبة واليمن[11].
أمَّا في الشام فقد أثارت وفاة نور الدين محمود مشكلة تقسيم دولته الواسعة بين ورثته؛ مما هدد الوحدة الإسلامية، وكادت هذه المشكلة أن تعود بالمسلمين إلى حالة التمزق والانقسام التي كانوا عليها قبل أن يبدأ عماد الدين زنكي جهوده لوضع قاعدة صلبة لتوحيد الجبهة الإسلامية والتصدي للصليبيين، ولم يكن بين رجال الأسرة الزنكية من يصلح أن يكون خلفًا لنور الدين محمود الذي لم يترك سوى ابنٍ طفلٍ في الحادية عشرة من عمره اسمه إسماعيل, وابنة صغيرة, وزوجة هي عصمة الدين خاتون.
اتفق الأمراء في دمشق بعد مناقشات مستفيضة على تنصيب الصالح إسماعيل ملكًا خَلَفًَا لوالده, وعيَّنوا شمس الدين محمد بن عبد الملك, المعروف بابن المقدم قائدًا للجيش, وأتابكًا له, وكتبوا إلى ولاة الأطراف بإقامة الخُطبة باسمه, وبخاصة صلاح الدين في مصر.

صلاح الدين يضم الشام لملكه

وقد جاءت وفاة نور الدين محمود (عام 569 هـ= 1174م) لتزيل الصعوبات الناجمة عن كون صلاح الدين نائبًا للأمير الزنكي في دمشق وحاكمًا فعليًّا لمصر, كما أنها في الحقيقة أعطت صلاح الدين مبررات مقنعة للدخول في مجال السياسة في بلاد الشام؛ حيث إن الصالح إسماعيل كان قاصرًا؛ لذلك قدم نفسه بوصفه النائب القوي الذي يمكن للصالح إسماعيل الاعتماد عليه. والواقع أن صلاح الدين تَطَلَّعَ إلى ضم بلاد الشام إلى مصر بعد وفاة نور الدين محمود, بهدف استمرار السياسة التي بدأها عماد الدين زنكي, وجرى عليها ابنُه نور الدين محمود, والتي تقضي بتوحيد كلمة المسلمين, والقضاء على الصليبيين.
وهكذا ضمَّ صلاح الدين دمشق وقلعتها؛ من أجل حماية الصالح إسماعيل من خطر الصليبيين, والأمراء الطامعين[12].

الاستعداد لمواجهة الصليبين

ثم أخذ صلاح الدين ينفذ سياسته, في إعادة بناء الجبهة الإسلامية المتحدة بحيث تمتد من شمالي العراق إلى بلاد الشام فمصر؛ ليتمكن - بعد ذلك - من البدء في حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين, والمسلمون أشد ما يكونون قوةً وتماسكًا, ثم تابع تقدمه باتجاه الشمال؛ وجرت مفاوضات مع أمراء الزنكيين أسفرت عن أن يكون لصلاح الدين ما بيده من بلاد الشام, وللحلفاء الزنكيين ما بأيديهم, وأن تُضافَ إلى أملاكه بعض الأراضي الواقعة شمالي (حَمَاة) مثل: المَعَرَّة, وكفرطاب, وبعد توقيع الاتفاق رحل صلاح الدين عن حلب.
قام صلاح الدين بعد ذلك بضم حلب وآمد وسنجار وغيرها من المدن والحصون؛ في سبيله لإتمام الوحدة التي يستطيع بها مواجهة الصليبيين، وتحرير بيت المقدس.
في ذات الوقت كانت هناك محاولتان للتخلص من صلاح الدين قام بها طائفة الحشيشية بالتعاون مع الصليبيين؛ رغبةً من الحشيشية في الانتقام منه لإسقاطه الدولة العبيدية المنحرفة التي يدينون بدينها، وخوفًا – في نفس الوقت - من الصليبيين من أن يُتم صلاح الدين وحدة مصر والشام، ثم يفرغ لمواجهتهم[13].

العلاقة مع الصليبيين

لقد مَرَّتِ العلاقات الأيوبية – الصليبية في عهد صلاح الدين بمرحلتين كبيرتين, امتدت المرحلة الأولى من عام (570 هـ= 1174م) إلى عام (582 هـ= 1186م). وفي هذه المرحلة لم يكن صلاح الدين متفرغًا لجهاد الصليبيين؛ إذ ليس من المعقول أن يوجه اهتمامه الكامل للجهاد ضدهم، وخلفه مجموعة من الأمراء المسلمين الذين يُشَكِّلُون تهديدًا محتملاً في الشمال والشرق؛ لذلك وَجَّهَ اهتمامه وجهوده نحو توحيد الجبهة الإسلامية.
وقد تخلل هذه المرحلة عقد المعاهدات, مثل المعاهدة التي عقدها مع الملك بلدوين الرابع في عام (576 هـ=1180م), والمعاهدة مع ريموند الثالث صاحب طرابلس في عام (581 هـ= 1185م). وتُعَدُّ هذه المعاهدات من العوامل التي ساعدته على بَثِّ التفرقة بين صفوف الصليبيين, وإضعاف قوتهم.
وامتدت المرحلة الثانية من عام (582 هـ= 1186م) إلى عام ( 588 هـ= 1192م)، وكان صلاح الدين قد فَرَغَ من توحيد الجبهة الإسلامية؛ فانصرف بكل طاقاته إلى الجهاد, وحقَّقَ الانتصارات الضخمة التي خَلَّدَت ذِكرَه في التاريخ[14]العظيم في حطين عام (583 هـ= 1187م).. ومن هذه الانتصارات الانتصار
كان من الأفضل للصليبيين - وقد كانوا في حالة صراعٍ داخليٍّ - أن يلتزموا بشروط الهدنة التي عقدوها مع المسلمين, وهي الهدنة التي ضمنت حماية القوافل التجارية بالتنقل بِحُرِّية وأمنٍ ما بين القاهرة ودمشق[15].
 ولكن الأحداث كانت تجري بسرعة في مصلحة صلاح الدين, وهو يستغلها؛ إذ إن تحالفه مع (ريموند الثالث) أثار غضب (رينولد شاتيون) الذي كان في هدنة مع صلاح الدين، فقام بنقض الهدنة في (عام 582 هـ= أواخر عام 1186م), حين أوقف قافلة تجارية كبيرة مَارَّةً بأرض الكرك, في طريقها من مصر إلى بلاد الشام, واستولى عليها؛ فقتل حراسها, وأسر بعض الجند, كما قبض على من في القافلة من تجار وعائلات, وحملهم إلى حصن الكرك.

خيانة العهد كانت البداية

لم تلبث أنباء الاعتداء أن وصلت إلى مسامع صلاح الدين, ولحرصه على احترام المعاهدة, أرسل إلى رينولد شاتيون ينكر عليه هذا العمل, ويتهدده إن لم يطلق سراح الأسرى ويعيد الأموال, غير أن صاحب الكرك رفض استقبال رسله.
 وعندما وجد صلاح الدين إعراضًا من جانب رينولد أرسل إلى الملك جاي لوزينان شاكيًا, ومطالبًا بالنصح لرينولد بإعادة الأسرى والأموال؛ فلبَّى جاي دعوة صلاح الدين، ولكنه أخفق في الضغط على رينولد.
والواقع أن صلاح الدين لم يستطع أن يكظم غيظه أمام رفض رينولد وعَجْز جاي؛ فأقسم أن ينتقم من رينولد, بل إنه "نذر دمه, وأعطى اللهَ عهدًا إن ظفر به أن يستبيح مهجته"[16], وما حدث من نقض الهدنة على هذا الشكل جعل الحرب أمرًا لا مَفَرَّ منه.
لقد اختار الصليبيون صفورية قُرب عكا مكانًا لتجمعهم, وحملوا معهم صليب الصلبوت تَبَرُّكًا, وعندما علم صلاح الدين أن ريموند الثالث نقض الهدنة والاتفاقية المعقودة معه، غادر الأردن مسرعًا إلى أن وصل إلى عشترا في حوران؛ فاجتمع بابنه الأفضل, وشاهد جيوشه البالغة اثني عشر ألفًا من الفرسان، بالإضافة إلى المشاة والمتطوعة مجتمعةً؛ فعبَّأها لخوض المعركة, ثم توجه إلى طبرية يوم الجمعة (17 من ربيع الآخر عام 583 هـ= 26 من حزيران عام 1187م), وكان يقصد بوقعاته أيام الجُمَع لا سيما أوقات الصلاة؛ تبركًا بدعاء الخطباء على المنابر؛ "فربما كانت أقرب إلى الإجابة"[17]

وبعد أن أقام في الأقحوانة على الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية مدة خمسة أيام, ارتحل عنها باتجاه الغرب للوصول إلى قرية الصنبرة الواقعة عند التلال المحيطة بالمنطقة القريبة من بحيرة طبرية[1].
وعلى الرغم من نيته الاشتباك مع العدو في معركة فاصلة, إلا أنه أراد بتحركه أن يثيرهم ليدفعهم إلى ترك مراكزهم عند صفورية, والزحف إليه وقد نجح في ذلك؛ فقد أصدر الملك جاي لوزينان الأوامر إلى الجند بالمسير؛ فاتخذ الجيش الصليبي - الذي بلغ تعداده زهاء خمسين ألفًا - في الصباح الباكر من يوم الجمعة (23 من ربيع الآخر= 2 من يوليو) طريقه شرقًا نحو طبرية, يتقدمه ريموند الثالث؛ لأن الجيش يجتاز إمارته.
 وقد واجه الجيش الصليبي المتقدم عدة مشكلاتٍ أَثَّرَتْ تأثيرًا سلبيًّا على قدراته القتالية، منها:
- انحطاط روح أفراده المعنوية, بعد الانقسام في الرأي بين القادة؛ فساروا مُكرَهين بين مؤيد للزحف ومعارض له.
- اشتداد حرارة الجو اللافحة في شهر تموز.
- افتقارهم إلى الماء.
- صعوبة الطريق الذي بلغ طوله ستة عشر ميلاً.
- تعرضهم لهجمات المسلمين الخاطفة[2].
اكتشف الصليبيون في صباح يوم السبت (24 من ربيع الآخر= 3 من يوليو) أنهم محاصرون بعيدًا عن الماء؛ فنزلوا مسرعين إلى قرون حطين, وهناك دارت معركة رهيبة انتصر فيها الجيش الإسلامي انتصارًا عظيمًا, وهاجمت قوة صليبية بقيادة ريموند الثالث المسلمين في بداية القتال, في محاولة لاحتلال الممر المؤَدِّي إلى قرية حطين حيث بعض ينابيع الماء والآبار؛ فانفصلت عن باقي الجيش الذي كان يتبعها, وعندما وصل أفرادها إلى الممر وجدوا أنفسهم مُطوَّقين من جانب المسلمين، فحاولوا شَقَّ طريق لهم عبر صفوف المسلمين, ولكنَّ الرماة رموهم بالنبال؛ فلقي عدد كبير منهم مصرعهم على الفور, بينما وقع آخرون في الأَسْر.
وفي الوقت الذي كان فيه ريموند الثالث مُطوَّقًا من قبل المسلمين, كان قلب الجيش بقيادة الملك يستعد للقتال, وعندما بدأ الالتحام هجم فرسان الداوية والإسبتارية بقوة؛ فقتلوا بعض المسلمين, وتسببوا في انسحاب البعض الآخر إلا أنهم لم يستثمروا انتصارهم الجزئي هذا؛ لأن المشاة قصروا في مجاراة الفرسان؛ لأنهم كانوا مرهقين, وانسحبوا إلى تلة هي إحدى قرون حطين, وذُعِرَ الملك عندما رأى ذلك؛ فحاول أن يعيد الثقة إلى المشاة, ويردهم إلى مواقعهم, ولكنه فشل, ومع انسحاب المشاة انكشف قلب الجيش الذي تعرض لضربات المسلمين.

ريموند يحاول الهرب
في ظل هذه الفوضى التي ضربت الجيش الصليبي, حاول الملك أن ينصب خيمة تكون مركزًا لإعادة التجمع, ولاحظ ريموند الثالث ما آلت إليه الأوضاع العسكرية من التدهور؛ فأيقن قبل أن تنتهي المعركة أن النصر سيكون في صالح صلاح الدين؛ ولذا بذل كل ما عنده من ذكاء لينجو بنفسه من الموقعة؛ فحاول أن يتراجع لكنه أخفق, ثم علت الصيحات بين صفوف الصليبيين: "من كان منكم يستطيع الهرب فليهرب؛ لأن المعركة ليست في جانبنا"، لكنَّ الهرب - حتى الهرب - كان مستحيلاً.
وكرر ريموند الثالث محاولته فك الطوق عن قواته, والانسحاب من المعركة عن طريق القيام بصدمة الجناح الإسلامي المقابل له بقيادة تقي الدين عمر, وقد نجحت خطته عبر ثغرة فتحها له القائد المسلم, وبعد أن اخترق صفوف المسلمين, أغلق القائد المسلم الثغرة, فانسحب ريموند من ساحة القتال, واتخذ طريقه إلى صور، ومنها إلى طرابلس.

القبض على صليب الصلبوت
وظل فرسان الداوية والإسبتارية يقاتلون, في الوقت الذي فقدوا فيه الأمل بأي انتصار؛ فأمر صلاحُ الدينِ ابن أخيه تقي الدين عمر أن يهجم مع خيَّالته على الصليبيين الذين تضعضعت صفوفهم, واختل نظام جيشهم, وأشعل المسلمون خلال ذلك النيران في الأعشاب الجافة والأشواك؛ فحملت الريح لهيبها ودخانها باتجاه الصليبيين؛ فزادت من معاناتهم, واجتمع عليهم العطش, وحر الزمان, والنار والدخان والسيوف, وأدى ذلك إلى فرار من بقي منهم من ساحة المعركة إلى إحدى قرون حطين حيث شاهدوا تقي الدين عمر يقبض على صليب الصلبوت؛ فأُسْقِطَ في أيديهم, وكانت تلك أكبر خسارة تكبدوها.
وتجمع بعض الفرسان حول خيمة الملك لشن هجوم مضاد, لكن صلاح الدين عاجلهم؛ فاندفع المسلمون الذين صعدوا إلى التلة التي نُصِبَتْ فيها الخيمة وأنهوا المعركة, وأسروا كل من كان حول الملك وفيهم الملك نفسه وأخوه, ورينولد شاتيون صاحب الكَرَك, وجماعة من الداوية والإسبتارية, وكَثَُرَ القتلُ والأسرُ فيهم[3].

صلاح الدين يقتل شاتيون بيده
سيق الأسرى إلى خيمة صلاح الدين التي أقامها في مكان المعركة؛ فاستقبل الملكَ والأمراءَ في لطف وبشاشة, وأجلس الأول إلى جانبه, وقد أهلكه العطش؛ فسقاه جلابًا مثلجًا, فشرب منه وأعطى ما تبقى إلى رينولد شاتيون الذي كان إلى جانبه, ووفقًا لتقاليد الضيافة العربية متى جرى بذلُ الطعام أو الشراب للأسير، فإن ذلك يعني الإبقاء على حياته؛ ولذا بادر صلاح الدين إلى القول: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيناله أماني". ثم التفت إلى رينولد شاتيون الذي لم يغفر له ما ارتكبه من أعمال السلب والنهب, وانتهاك الحرمات المنافية للدين, وأخذ يُذَكِّرُه بجرائمه وخيانته وغدره, ثم قام إليه وضرب عنقه بنفسه؛ فارتعد الملكُ وظَنَّ أنه سوف يحل دوره, غير أن صلاح الدين سَكَّن جأشه وأَمَّنَه, وقال له: "إن الملك لا يقتل ملكًا، وإنما هذا فإنه تجاوز الحد, فجرى ما جرى". ثم أصدر أوامره بألا يتعرض الأمراء للأذى, غير أنه لم يود أن يُبقي على حياة الأسرى من الفرسان والرهبان الداوية والإسبتارية, فأجهز عليهم, وسيق الأسرى إلى دمشق, فتهيأت للأمراء أسباب الراحة، بينما تقرر بيع الأسرى الفقراء في سوق الرقيق.

الطريق إلى بيت المقدس
وأضحى الموقف العسكري شديد الخطورة على مملكة بيت المقدس, وإمارتي طرابلس وأنطاكية؛ إذ لم يبقَ أمامه - بعد أن دمر أعداءه - إلا أن يفتح حصون الأرض المقدسة, وبخاصة أنه نتج عن خسارة الصليبيين, الذين ألقوا بكل ثقلهم في معركة حطين, أن وقع عدد كبير من أمرائهم وقوادهم وفرسانهم في الأسر, وعلى رأسهم الملك جاي لوزينان, حتى لم يبق لديهم من يصلح للقيادة. يُضَافُ إلى ذلك أن الغرب الأوروبي لم ينتبه إلى الخطر قبل عام (583 هـ= 1187م)؛ ولذا فإن احتمال مجيء حملة صليبية سوف يستغرق زمنًا؛ لذلك شرع صلاح الدين يفتح المدن والحصون الصليبية واحدة بعد أخرى, فتحًا سريعًا ومتواصلاً, مُرَكِّزًا ضرباته المباشرة على الموانئ المهمة.
والواقع أن عملية الفتح لم تكن حربًا بالمعنى العسكري المفهوم للكلمة, بل أشبه بنزهة عسكرية؛ إذ كانت المقاومة ضعيفة, مما سَهَّل للمسلمين الانتشار والتقدم, فكانت المدينة أو القلعة تسارع إلى الاستسلام لمجرد وصول المسلمين إليها, وذلك لعدم وجود قوة تدافع عنها, وإذا قاومت فإن مقاومتها تبدو ضئيلة. وقد قام صلاح الدين في هذا الوقت بفتح قلعة طبرية، وفتح عكا، ومدن الجليل، والمدن الساحلية[4]. والواقع أنه لم ينقضِ شهر جُمَادَى الآخرة حتى لم يَبْقَ للنصارى جنوبي طرابلس سوى صور وعسقلان وغزة, وبضع قلاعٍ معزولة، بالإضافة إلى بيت المقدس.
ويبدو أن صلاح الدين تخلى عن حذره هذه المرة أيضًا, حين منح الصليبيين - بعد أن فتح المدن والحصون المشار إليها - حرية البقاء فيها أو الخروج منها، فذهب معظمهم إلى صور؛ ذلك أنه سرعان ما أدرك أن أمر هذه المدينة غدا صعبًا فتركها, وآثر الانصراف إلى غيرها؛ فقام بفتح عسقلان.

فتح بيت المقدس
بعد أن فرغ صلاح الدين من فتح عسقلان والمدن المجاورة, تطلع إلى تحقيق هدفه الذي طالما جال بخاطره, وعمل له, وهو تحرير بيت المقدس تمهيدًا لطرد الصليبيين من المنطقة؛ فأخذ يستعد لتنفيذ هذه الخطوة, وحتى يقطع الطريق على احتمال هجوم صليبي بحري على الساحل الشامي أثناء حصاره لبيت المقدس؛ أرسل إلى قائد أسطوله في مصر حسام الدين لؤلؤ أن يخرج بأسطوله من مصر لحماية الشواطئ, وقطع الطريق على مراكب الصليبيين والاستيلاء عليها.
وبذلك يكون قد ضمن حماية مؤخرة جيشه البري، وأقفل حلقة الحصار على المدينة المقدسة؛ ومن ثَمَّ دعا أهلَها إلى إرسال وفد للتباحث في الشروط التي بمقتضاها تستسلم المدينة.
ويبدو أن سكان بيت المقدس قد أدركوا بعد تساقط المدن والمعاقل الداخلية والساحلية بيد صلاح الدين, أنهم أضحوا محاصرين فعلاً؛ فأرسلوا إليه وفدًا اجتمع به أمام عسقلان, فعرض عليهم تسليم المدينة بالشروط نفسها التي استسلمت بها بقية المدن والمعاقل الصليبية, أي يؤمنهم على أرواحهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم, وأن يسمح لمن يشاء بالخروج من المدينة سالمًا, ولكن سكان بيت المقدس رفضوا أن يسلموا المدينة، عندئِذٍ أقسم صلاح الدين أنه سوف ينالها بحد السيف.
ثم كرر صلاح الدين عرضه على سكان بيت المقدس؛ وذلك رغبة منه في عدم استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها وقدسيتها عند المسلمين والنصارى على السواء, لكنهم أصروا على موقفهم الرافض؛ عندئذٍ قرر صلاح الدين اقتحام المدينة عنوة.
واجتمع داخل المدينة ما بلغ ستين ألفًا بين فارس وراجل سوى النساء والأطفال, بل إن الصليبيين قاوموا الجيش الأيوبي الزاحف, واستطاعوا قتل أحد الأمراء وجماعة ممن كانوا معه.
وقد وصل صلاح الدين إلى المدينة في (15 من رجب عام 583 هـ= 20 من سبتمبر عام 1187م) وعسكر أمام أسوارها الشمالية, والشمالية الغربية, وشرع في مهاجمتها لكنه جُوبِه باستحكامات هذا الجانب المتينة المشحونة بالمقاتلين، بالإضافة إلى أشعة الشمس التي كانت تواجه عيون قواته فحجبت عنهم الرؤية الضرورية للقتال حتى بعد الظهر؛ لذلك طاف حول المدينة مدة خمسة أيام يبحث عن مكان يصلح للجيش أن يعسكر فيه إلى أن عثر على موضع في الجانب الشمالي نحو العمود وكنيسة صهيون, حيث الأسوار أقل متانة, فانتقل إلى هذه الناحية في (20 من رجب = 25 من أيلول), وحين حَلَّ الليلُ بدأ بنصب المجانيق.
وتراشق الطرفان بقذائف المجانيق، وقاتل أهل بيت المقدس بحميَّة وكذلك المسلمون، حيث كان كل فريق يرى ذلك دِينًا عليه, وحتمًا واجبًا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني.
ولما رأى الصليبيون شدة القتال, وشعروا بأنهم أشرفوا على الهلاك؛ عقدوا اجتماعًا للتشاور، فاتفقوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا وفدًا إلى صلاح الدين من أجل هذه الغاية, واشترطوا احترام مَن في المدينة من الصليبيين, والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق لصلاح الدين أن عرضها عليهم من قَبْلُ, لكنه رفض قبولها الآن؛ لأنه أوشك أن يفتح المدينة عَنْوَةً, وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوءًا, وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم, ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم, ولكن صلاح الدين سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف, ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.

في ذكرى الإسراء تم الفتح
وتجاه هذا الإصرار, وبعد أن استشار مجلس حربه في الموقف, تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير, وخمسة دنانير عن المرأة, ودينارين عن الطفل, ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر, واشترط أن يُدْفَعَ الفداءُ المفروضُ في مدى أربعين يومًا, ومن لم يُؤَدِّ فداءَه خلال تلك المدة يصبحْ مملوكًا, لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق صلاحُ الدين أن يدفع باليان مبلغًا إجماليًّا قدره ثلاثون ألف دينارٍ عن ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم.
 ودخل صلاح الدين المدينة يوم الجمعة (27 من رجب= 2 من تشرين الأول), وشاءت الظروف أن يصادف ذلك اليوم في التاريخ الهجري، ذكرى ليلة الإسراء والمعراج.

سماحة القائد أم سماحة الإسلام
ومن الأمور اللافتة ما حدث من طلب العادل من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير من الفقراء على سبيل المكافأة عن خدماته له مظهرًا بذلك تسامحًا كبيرًا، فوهبهم له؛ وإذ ابتهج البطريرك لذلك, لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الفقراء ليطلق سراحهم، فاستجاب لطلبه, ثم أعلن أنه سوف يطلق سراح كل شيخ, وكل امرأة عجوز, كما ذهب بعيدًا حين وعد نساء الصليبيين بأن يطلق سراح كُلِّ مَن في الأسر من أزواجهن, ومنح الأرامل واليتامى العطايا من خزائنه كل واحد بحسب حالته.
والواقع أن عطف صلاح الدين وسماحته كانت على نقيض أفعال الصليبيين في الحملة الصليبية الأولى[5]؛ إذ كان مثالاً للمسلم المتسامح الذي يعفو من موضع القوة عمَّن أساء إليه، بل ويحسن إليه.
ثم عمل صلاح الدين على محو الآثار النصرانية في المدينة؛ فأعاد قبة الصخرة, والمسجد الأقصى إلى سابق عهدهما, وأنزل الصليب الكبير الذي أقامه الصليبيون في أعلى قبة الصخرة, في حين غُسِلَتِ الصخرة بماء الورد وبُخِّرَت, ثم دخل صلاح الدين إلى المسجد الأقصى يوم الجمعة (4 من شعبان= 9 من تشرين الأول), وصَلَّى فيه, وشكر اللهَ على توفيقه ونصره.

أصداء فتح بيت المقدس تهز أوروبا
ما كاد القتال ينتهي في حطين, وتتحقق خسارة الصليبيين, حتى أسرعت الرسل إلى غرب أوروبا لإعلام ملوكها وأمرائها بما آلت إليه أوضاع الصليبيين في الشرق, ولم يلبث أن اقتفى أثرهم رسلٌ آخرون عقب فتح بيت المقدس.
والواقع أن تلك الخسارة وهذا الفتح أحدثا ردَّ فعل عنيف في المجتمع الغربي الذي ذُعِرَ لنبأ الكارثتين, واعتقد النصارى في الغرب أنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في الاستجابة للاستغاثات المتكررة التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السنوات الأخيرة.
وأدرك من اجتمع في (صور) من الصليبيين أنه ما لم تصلهم نجدة من الغرب, فإن فرص الاحتفاظ (بصور) ستتضاءل بعد أن ضاع كل أمل في استعادة المناطق التي فقدوها, ولم يلبث (كونراد دي مونتفيرات) أن أرسل (جوسياس) رئيس أساقفة (صور) إلى غرب أوروبا في منتصف عام (583 هـ= أواخر صيف عام 1187م)؛ ليطلب من البابا وملوك أوروبا وأمرائها النجدة العاجلة.

الحملة الصليبية الثالثة
أسفرت تلك الجهود عن قيام حملة صليبية ضخمة هي الحملة الثالثة في سلسلة الحملات الصليبية في اتجاهها إلى الشرق بقيادة ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وملك فرنسا فيليب أغسطس، والإمبراطور الألماني (فريدريك بربروسا). غير أنَّ غرق الإمبراطور الألماني أدَّى لاختلال نظام جيشه, وعجز ابنه عن السيطرة على الجند؛ فعاد معظم أفراده إلى بلادهم, وواصل الباقون طريقهم إلى أنطاكية بقيادة فريدريك السوابي ومعهم جثة الإمبراطور[6].
لم يهنأ صلاح الدين بفتح عكا أكثر من عامين، فسرعان ما استجمع الصليبيون صفوفهم وتوجهوا نحو هذه المدينة للاستيلاء عليها بعد فشل (صلاح الدين) في فتح (صور).
غير أن صلاح الدين لم يكن باستطاعته أن يتفرغ للدفاع عن عكا وحدها، إذ اضطُرَّ أن يوزع قواته على أنحاء متفرقة من البلاد للدفاع والمراقبة؛ لذلك طلب صلاح الدين المساعدة من حكام المسلمين في الشرق والغرب, فكتب إلى أمراء الجزيرة والموصل, الذين لَبَّوْا نداء المساعدة على الرغم مما كان بينهم وبينه من فتور, مما يدل على وعي إسلامي للخطر الصليبي, وقد أثبت حصار عكا أن ثمة توازنًا بين قوتي الفريقين إلى حَدٍّ ما, إذ لم يستطع الصليبيون اقتحام المدينة, واستطاع المسلمون في داخلها الصمود, وكذلك لم يستطع صلاح الدين إزاحتهم؛ فتشبث كل طرف بموقعه, في انتظار وصول الإمدادات التي تكفل له القيام بالهجوم[7].
وفي (12 من جُمَادَى الآخرة= 7 من يوليو) وصل أحد العَوَّامين يحمل آخر استغاثة من المدينة؛ إذ لن تستطيع الحامية أن تمضي في صمودها ما لم تصل إليها المساعدة, وما دار من قتال في (16 من جمادى الآخرة= 11 من يوليو) يُعَدُّ آخرَ ما بذله المسلمون من جهد؛ حيث عرضوا التسليم في اليوم التالي, وكان أن تَدَخَّلَ كونراد دي مونتفيرات, وعقد اتفاقية مع حامية عكا دون موافقة صلاح الدين؛ تضمنت ما يلي:
- استسلام عكا بِكُلِّ ما تحويه من سفن ومستودعات وذخيرة.
- يؤدي المسلمون للصليبيين فدية مقدارها مائتا ألف دينار.
- يطلق المسلمون سراح ألف وخمسمائة أسير صليبي, بالإضافة إلى مائة مُعينين من جانبهم.
- يرد المسلمون صليب الصلبوت إلى الصليبيين.
- يخرج المسلمون من المدينة سالمين.
وعندما اطَّلع صلاح الدين على فحوى الاتفاق رفضه بشدة, وعَظُمَ عليه الأمر, فاجتمع مع أركان حربه للتشاور وتقييم الوضع. وفي الوقت الذي كان يُعِدُّ فيه الجواب للحامية, فوجئ بألوية الصليبيين ترفرف فوق أبراج عكا, وكان ذلك يوم الجمعة (17 من جُمادى الآخرة= 12 من يوليو)؛ إذ عقدت الحامية الاتفاقية باسمه, ونتيجةً لما اتصف به من الشرف لم يسعه إلا الالتزام بها, ثم أمر بنقل معسكره إلى (شفرعم) على الطريق المؤدية إلى صفورية, بعيدًا عن المدينة, إذ لم يبق من مبرر لبقاء قواته على حصار عكا, بالإضافة إلى أنه خشي من إقدام الصليبيين على مهاجمته.
وهكذا دخل الصليبيون عكا بعد أن حاصروها قرابة عامين.

ريتشاد الغادر
ويبدو أن الصليبيين ماطلوا في تنفيذ الشق المتعلق بهم, وكان صلاح الدين قد أرسل لهم القسط الأول من المال والرجال الأسرى, ولما طالبهم بتنفيذ البند الخاص بهم كاملاً، رفضوا؛ عندها أدرك عزمهم على الغدر, ورفض أن يسلمهم ما تبقى من المال والأسرى, فما كان من ريتشارد قلب الأسد إلا أن أجرى مذبحة غادرةً بشعة داخل عكا, حين أمر بقتل ثلاثة آلاف أسير مسلم. وبكى صلاح الدين متأثرًا, ولكنه لم يسمح لأحد بالانتقام منهم ردًّا على ما ارتكبه الملك الإنجليزي إلا أنه أمر برد الأسرى الصليبيين الذين جلبهم من دمشق لإجراء التبادل.

صلح الرملة
وحدث في هذه الأثناء أن غادر فيليب أغسطس عكا إلى صور في (7 من رجب= 31 من تموز) نظرًا لاعتلال صحته, ثم أبحر من صور إلى برنديزي بعد ثلاثة أيام. وإذ ارتحل الملك الفرنسي أضحى الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد قائدًا للجيش، وتولى مباشرة القتال مع صلاح الدين، حتى تم توقيع صلح الرملة[8] في (22 من شعبان 588 هـ= 2 من سبتمبر 1192م)، والذي نص على:
-         يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوبًا بما فيها قيسارية وحيفا وأرسوف.
-         تكون عسقلان بأيدي المسلمين.
-         يتقاسم المسلمون والصليبيون اللد والرملة مناصفةً.
-         يحق للنصارى زيارة بيت المقدس بحرية.
-         للمسلمين والنصارى الحق في أن يجتاز كل فريق منهم بلاد الفريق الآخر.
-         مدة المعاهدة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر.
واشترط صلاح الدين دخول بلاد الحشيشية في الصلح، بمعنى أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعَدُّ جزءًا من المناطق الإسلامية التي تشملها المعاهدة، وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد دخول كل من صحب أنطاكية وطرابلس[9].
 بلغ صلاح الدين من العمر في عام (589 هـ= 1193م) السابعة والخمسين, غير أن ما تعرض له من الإرهاق والتعب طوال مدة اصطدامه بالصليبيين أنهك صحته, وقد أقام في بيت المقدس إلى أن علم برحيل ريتشارد قلب الأسد؛ فالتفت إلى تنظيم الشئون الإدارية لإقليم فلسطين, غير أن العمل أَلَحَّ عليه بضرورة المسير إلى دمشق.
وفي ذات الوقت فإنَّ ما تجمع في أثناء السنوات الأربع التي أمضاها في القتال من مشاكل إدارية وتراكم الأعمال التنظيمية, استدعى أن يؤجل زيارته لمصر, وتأدية فريضة الحج, وتَطَلَّبَ منه بذل مجهودٍ كبيرٍ لتعويض ما خَرَّبته الحروب. وما تهيأ له من وقت الفراغ أمضاه في المناقشات مع العلماء في المسائل الدينية, وكان يخرج للصيد أحيانًا, على أن كل من شاهده ممن يعرفه, في أواخر الشتاء أدرك أن صحته انهارت, فصار يشكو من التعب والنسيان, ولم يعد باستطاعته أن يستقبل الناس.
 وفي (16 من صفر عام 589 هـ= 21 من فبراير عام 1193م) انتابته حُمَّى صفراوية استمرت اثني عشر يومًا, وقد تحمل أعراض المرض بجَلَدٍ وهدوء, وقد علم أن النهاية اقتربت. وفي (24 من صفر= أول مارس) انتابته غيبوبة, وبعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء في (27 من صفر= 4 من مارس) وبينما كان الشيخ أبو جعفر - إمام الكلاسة - يتلو أمامه القرآن, حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: "هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة" فتح صلاح الدين عينيه وتبسم, وتهلَّلَ وجهه, وسمعه وهو يقول: "صحيح..." ثم مضى إلى ربه في قلعة دمشق؛ فتولى تجهيزه القاضي الفاضل والقاضي المؤرخ ابن شداد, وغَسَّلَه خطيب دمشق, واجتمع الناس في القلعة, وصَلَّوا عليه ودُفِنَ فيها, وعَمَّ الحزنُ الكبارَ والصغارَ, ثم جلس ابنه الملكُ الأفضلُ عليٌّ للعزاء ثلاثة أيام, وأرسل الكتب إلى أخيه العزيز عثمان في مصر, وأخيه الظاهر غازي في حلب, وعمه العادل في الكرك، فحضروا, ثم حُصِرَت تَرِكَتُه فكانت دينارًا واحدًا وستةً وثلاثين درهمًا, ولم يُخَلِّفْ من المال سواها ثابتًا أو منقولاً[1].

تنازع أيوبي على السلطة
ترك صلاح الدين بعد وفاته في عام (589 هـ= 1193م) دولة واسعة الأرجاء, وسبعة عشر ولدًا وبنتًا واحدة.
وكان صلاح الدين - رحمه الله – قد وزَّع خلال حياته السياسية البلاد الواقعة تحت سيطرته على أفراد عائلته؛ مانحًا إياهم سلطات فعلية لممارسة السيادة؛ فتقاسم هؤلاء التركة الصلاحية بعد وفاته في ظل ما حدث من المؤامرات والحروب بينهم, إذ أن كلاًّ منهم يطمع في أن يكون نصيبه يضارع نصيب جاره أو يفوقه, بالإضافة إلى تَزَعُّمِ العائلة الأيوبية.
 وقد أخذت الجبهة الإسلامية في التداعي بعد وفاة صلاح الدين عام (589 هـ= 1193م)، ولم تلبث أن نشبت حرب الوراثة بين أبناء البيت الأيوبي, فاتفق أمراء الشام على ألا يعترفوا بسيادة العزيز عثمان صاحب مصر الذي اتصف بالطموح السياسي, وزعم أن له السيادة عليهم جميعًا, وكان هذا الرفض نابعًا من أهمية دور دمشق في توجيه السياسة الأيوبية, غير أن الأفضل عليّ صاحب دمشق اتصف بسوء السيرة؛ فقد احتجب عن الرعية, واشتغل بلهوه مما أدى إلى كراهية الناس له؛ فقد وضع ثقته في وزيره ضياء الدين بن الأثير، فأساء التصرف في أمور الرعية, وخالف نهج والده في الحكم؛ فأقصى أمراء والده ومستشاريه بتأثير من وزيره؛ فهرب هؤلاء إلى القاهرة مستنجدين بالعزيز عثمان الذي رفعهم وأعزهم، فالتفوا من حوله, واعترفوا به زعيمًا على الأيوبيين.

العادل يعيد توحيد الدولة بنفس الخطأ
مَرَّتْ الدولة الأيوبية خلال تلك الفترة بعدة تطورات سريعة انتهت بتوحيدها مرة أخرى تحت زعامة العادل أخي صلاح الدين بعد صراعات طويلة بين أبناء صلاح الدين فيما بينهم، وبينهم من جهة وبين عمهم العادل من جهة أخرى.
وهكذا أعاد العادل توحيد الدولة الأيوبية تحت سلطانه, ولكنه ارتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه صلاح الدين عندما وَزَّعَ إرثه بين أولاده وإخوته؛ مما أَدَّى إلى إضعاف الأيوبيين؛ لأن هذا التوزيع سَبَّبَ التنافر والتحاسد بين الإخوة, وأعاد من جديد المأساة التي حدثت بعد وفاة صلاح الدين[2].

نجم الدين أيوب
نقفز خمسين سنة من الصراع، ونصل إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي (الصالح نجم الدين أيوب)،أو (الملك الصالح)، والذي يُعَدُّ من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين.
لقد تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدَّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر، وحدثت بينهم مناوشات وحروب، وبلغ الأمر مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!! وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!
وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر فأعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة، وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفًا إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين؛ ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فَرُّوا من قَبلُ من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها, وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنودًا مرتزقة بمعنى الكلمة؛ بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال؛ فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعُرِفَت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642هجرية، وانتصر فيها الملك الصالح انتصارًا باهرًا، وقُتِلَ من الصليبيين أعدادٌ كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأُسِرَت مجموعةٌ كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أُسِرَت مجموعةٌ من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة, واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرَّرَ المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرِّرَ بيتُ المقدسِ نهائيًّا، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبدًا لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16مننوفمبر سنة 1917 ميلادية، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفى كمال أتاتورك.
ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحَّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحَرَّرَ بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما.

المماليك البحرية
غير أنه حدث تطور خطير جدًّا في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة، وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتفِ هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المُحَنَّك ركن الدين بيبرس.
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لا بد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله، فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية، وكانت هذه الطائفة هي (المماليك).
 وقد زاد عدد المماليك الصالحية (نسبة إلى الملك الصالح)، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، حتى بنى لنفسه قصرًا على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تمامًا، وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر؛ ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية (بالمماليك البحرية)؛ لأنهم يسكنون بجوار البحر.
 وهكذا وطَّد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه (فارس الدين أقطاي)، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية.

الحملة الصليبية السابعة
وفي سنة 647 هجرية كان الصالح أيوب قد مرض مرضًا شديدًا، وكان مصابًا بمرض السُّلِّ، وبالإضافة إلى كِبَرِ سِنِّهِ؛ فإِنَّ هذا جعله طريح الفراش في القاهرة، وفي هذه الأثناء وقبلها كان ملك فرنسا (لويس التاسع) يريد أن يستغل فرصة الاجتياح التتري لشرق العالم الإسلامي، فيقوم هو باجتياح العالم الإسلامي من ناحية مصر والشام، ووقع اختياره على مدينة دمياط المصرية ليبدأ بها حملته؛ لأنها كانت أهم ميناء في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في ذلك الزمن، وبذلك بدأت الحملة التي تُعْرَفُ في التاريخ بالحملة الصليبية السابعة؛ فقد نزل الملك لويس التاسع بجيشه إلى دمياط في يوم 20 من صفر سنة 647 هجرية، وللأسف الشديد ظنت الحامية المدافعة عن المدينة أن سلطانهم المريض الملك الصالح أيوب قد مات، فانسحبوا انسحابًا غير مُبَرَّر، ووقعت دمياط في أيدي الصليبيين بسهولة، وهي المدينة التي دَوَّخت قبل ذلك الحملة الصليبية الخامسة.
علم بذلك الملك الصالح - رحمه الله - فاشتد حزنه، وعاقب المسئولين عن جريمة سقوط دمياط، وتوقَّع أن النصارى الصليبيين سيتجهون إلى القاهرة عبر النيل لغزو العاصمة المصرية نفسها, وبذلك يُسقِطُون الدولةَ بكاملها؛ لذلك فقد قرر بحكمته أن يُرَتِّبَ اللقاءَ في الطريق بين القاهرة ودمياط، واختار لذلك مدينة المنصورة لأنها تقع على النيل، وحتمًا سيستغل الصليبيون النيل للإبحار فيه بسفنهم الكثيرة.
وبالفعل أمر الملك الصالح - رحمه الله - أن يحمله الناس إلى مدينة المنصورة الواقعة على فرع النيل الذي يأتي من دمياط، وذلك لانتظار جيش الصليبيين بها، والاستعداد لمعركة فاصلة هناك، وحُمِل الملك الصالح ـ رغم مرضه الشديد ـ إلى المنصورة، وبدأ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس يضعان الخطة المناسبة للقاء النصارى في المنصورة.

ورحل الملك الصالح
وخرج النصارى من دمياط في 12من شعبان 647هجرية متجهين جنوبًا عبر النيل صَوْبَ القاهرة، وكان من المؤكد أنهم سَيَمُرُّونَ على المنصورة كما توقع الصالح أيوب,ولكن في ليلة النصف من شعبان تُوُفِّيَ الملكُ الصالِحُ نجمُ الدين أيوب رحمه الله، وهو في المنصورة يُعِدُّ الخُطَّةَ مع جيوشه لتحصين المدينة، فنسأل له الله المغفرة والرحمة وأجر الشهداء. يقول (ابن تغري بردي)صاحب كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) والمُتَوَفَّى سنة 874 هجرية: "ولو لم يكن من محاسن السلطان الصالح نجم الدين أيوب إلا تجلده عند مقابلة العدو بالمنصورة، وهو بتلك الأمراض المزمنة، وموته على الجهاد والذبّ عن المسلمين لكفاه ذلك"، ثم يقول: "ما كان أصبره وأغزر مروءته!!".
 وكانت مصيبة خطيرة جدًّا على المسلمين، لا لفقد الزعيم الصالح فقط، ولكن لفقدان البديل والخليفة له، وخاصة في ذلك التوقيت، والبلاد في أزمة شديدة، وميناء دمياط محتل، وجنود الصليبيين في الطريق.
وهنا تصرفت زوجة السلطان نجم الدين أيوب بحكمة بالغة، وكانت زوجته هي (شجرة الدر)، وشجرة الدرِّ كانت فيما سبق جارية من أصل أرمني أو تركي، اشتراها الصالح أيوب ثم أعتقها وتزوجها؛ ولذلك فهي في الأصل أقرب إلى المماليك.

الانتصار في معركة المنصورة الكبيرة
لقد كتمت شجرة الدرِّ خبر وفاته، وقالت: إن الأطباء منعوا زيارته. وأرسلت بسرعة إلى ابن الصالح أيوب، والذي كان يحكم مدينة تعرف (بحصن كيفا) في تركيا الآن، وكان اسمه (توران شاه بن نجم الدين أيوب)، وأبلغته بخبر وفاة أبيه، وأَنَّ عليه أن يأتي بسرعة لاستلام مقاليد الحكم في مصر والشام، ثم اتفقت مع كبير وزراء الملك الصالح, وكان اسمه (فخر الدين يوسف) على إدارة الأمور إلى أن يأتي توران شاه، ثم كلفت فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس بالاستمرار في الإعداد للمعركة الفاصلة في المنصورة، وهكذا سارت الأمور بصورة طيبة بعد وفاة الملك الصالح، ولم يحدث الاضطراب المتوقع نتيجة هذه الوفاة المفاجئة، وفي هذه الظروف الصعبة.
ومع كل احتياطات شجرة الدرِّ إلا أن خبر وفاة الملك الصالح أيوب تسرب إلى الشعب، بل ووصل إلى الصليبيين، مِمَّا أدى إلى ارتفاع حماسة الصليبيين، وانخفاض معنويات الجيش المصري، وإن ظل ثابتًا في منطقة المنصورة.
ووضع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس خطة بارعة لمقابلة الجيش الفرنسي في المنصورة، وعرضاها على شجرة الدر، وكانت شجرة الدرِّ تمثل الحاكم الفعلي لحين قدوم توران شاه ابن الصالح أيوب. وأقرت شجرة الدرِّ الخطة، وأخذ الجيش المصري مواقعه، واستعد لِلِّقاء.

وفي اليوم الرابع من ذي القعدة من سنة 647 هجرية دارت موقعة المنصورة العظيمة، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا.
وبعد أن وصل توران شاه إلى المنصورة في السابع عشر من ذي القعدة سنة 647 هجرية، وتسلم السلطان الشاب مقاليد الحكم، وأُعْلِنَ رسميًّا وفاةُ الملك الصالح نجم الدين أيوب، وولاية توران شاه حكم مصر والشام.
 بدأ توران شاه في التخطيط لهجوم جديد على الصليبيين، وبعد خطة بارعة استطاع الجيش المصري أن يلتقي مرة أخرى مع الصليبيين، عند مدينة (فارسكور)في أوائل المحرم سنة 648هجرية، بعد أقل من شهرين من موقعة المنصورة الكبيرة! ودارت هناك معركة هائلة تحطم فيها الجيش الصليبي تمامًا، بل وأسر الملك لويس التاسع نفسه، ووقع جيشه بكامله ما بين قتيل وأسير، وسِيقَ الملك لويس مكبلاً بالأغلال إلى المنصورة، حيث حبس في دار (فخر الدين إبراهيم ابن لقمان).
ووُضِعَت شروطٌ قاسيةٌ على الملك لويس التاسع ليفتدي نفسه من الأسر، وكان من ضمنها أن يفتدي نفسه بثمانمائة ألف دينار من الذهب، يدفع نصفها حالاً ونصفها مستقبلاً، على أن يحتفظ توران شاه بالأسرى الصليبيين إلى أن يتم دفع بقية الفدية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى المسلمين، وتسليم دمياط للمسلمين، وهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات.
 وتم بالفعل جمع نصف الفدية بصعوبة، وأُطْلِقَ سراح الملك لويس التاسع إلى عكا، وكانت إمارة صليبية في ذلك الوقت، نسأل الله أن يحررها من دنس اليهود الآن[3]. ولكن ماذا فعل توران شاه في حُكم مصر؟ وكيف كانت سيرته؟

توران شاه
لقد كان توران شاه شخصية عابثة! فلقد اتصف هذا السلطان الشاب بسوء الخلق، والجهل بشئون السياسة والحكم، وأعماه الغرور الذي ركبه بعد النصر على لويس التاسع ملك فرنسا عن رؤية أفضال ومزايا من حوله، فقد بدأ من ناحية يتنكر لزوجة أبيه شجرة الدر، واتهمها بإخفاء أموال أبيه، وطالبها بهذا المال، بل وهددها بشدة حتى دخلها منه خوف شديد، ولم يحفظ لها جميل حفظ الملك له بعد موت أبيه، وحفاظها على سير الأمور لحين قدومه، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنه بدأ يتنكر لكبار أمراء المماليك، وعلى رأسهم فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، ولم يحفظ للمماليك جميل الانتصار الرائع الذي حققوه في موقعة المنصورة، فبدأ يقلل من شأنهم، ويقلص من مسئولياتهم، وبدأ على الجانب الآخر يُعَظِّمُ من شأن الرجال الذين جاءوا معه من حصن كيفا، وبدا واضحًا للجميع أنه سيقوم بعمليات تغيير واسعة النطاق في السلطة في مصر.
كل هذا في غضون الأشهر الثلاثة الأولى في مصر، وبعد موقعة فارسكور مباشرة.

وخافت شجرة الدرِّ على نفسها، وأَسَرَّت بذلك إلى المماليك البحرية، وخاصةً فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس، وكان المماليك البحرية يُكِنُّونَ لها كل الاحترام والولاء لكونها زوجة أستاذهم الملك الصالح رحمه الله، وكانت علاقة الأستاذية هذه من القوة بحيث تبقى آثارها حتى بعد موت الأستاذ. ثم إن شجرة الدرِّ قد وجدت نفس الوساوس في نفوس المماليك البحرية في ذات الوقت، ومن ثَمَّ اجتمع الرأي على سرعة التخلص من (توران شاه)قبل أن يتخلص هو منهم؛ فقرروا قتله.
اتفقت شجرة الدرِّ مع فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس وغيرهما من المماليك الصالحية البحرية على قتل (توران شاه)، وبالفعل تمت الجريمة في يوم 27 من المحرم سنة 648 هجرية، أي بعد سبعين يومًا فقط من قدومه من حصن كيفا واعتلائه عرش مصر، وكأنه لم يقطع كل هذه المسافات لكي (يحكم)بل لكي (يُدفَن)!!
وهكذا بمقتل (توران شاه)انتهى حكم الأيوبيين تمامًا في مصر، وبذلك أُغْلِقَتْ صفحة مهمة من صفحات التاريخ الإسلامي.

لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية, ووَحَّدَ في هذه الفترة مصر والشام, وتَزَعَّمَ الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقَّقَ عليهم انتصاراتٍ هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الآخِر سنة 583 هجرية، وفَتْحِ بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق, وأجزاء من تركيا, وأجزاء من ليبيا والنوبة، وحُصِرَ الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
لكن ـ سبحان الله ـ بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تَقَلَّصَ دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتِنَ المسلمون بالدولة الكبيرة، وكَثُرَتِ الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جَرَّاءِ هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتَفَكَّكَتِ الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلامٍ وسبابٍ وشقاقٍ فقط،بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأَدَّى ذلك إلى الفُرْقَة الشديدة، والتشرذم المقيت، بل كان يصل أحيانًا الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جَرَّاء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن ماجه والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كانت الدنيا همه فَرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
صدقت ـ والله ـ يا رسول الله.
لقد جعل صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفًا واحدًا هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا - فعلاً - وهي راغمة، أمَّا معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تمامًا، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله U فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيرًا، ومنهم من مات طريدًا، ومنهم من مات حبيسًا. كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله[1].
وهكذا انتهى حكم الأيوبيين لمصر، وبدأت حقبة جديدة في ظل دولة أخرى هي دولة المماليك. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.